ARTICLE AD BOX
حين التحقت المطربة المصرية برلنتي حسن بالإذاعة أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، استطاعت أن تلفت انتباه المستمعين بصوتها وحسن أدائها. وخلال عام أو عامين، أصبحت المطربة الشابة نجمة من نجمات الإذاعة المصرية أيام مجدها، ثم كان الراديو جسراً عبرت عليه إلى عالم السينما، بالصوت فقط في معظم الأفلام، أو بالظهور صوتاً وصورةً في أعمال قليلة.
استمع جمهور السينما إلى صوتها مركباً على صورة فاتن حمامة في فيلم "أنا بنت ناس" عام 1952، إذ كانت تغني أغنية بالعنوان نفسه. واستمع إلى صوتها وصوت عبد الحليم حافظ، وهما يغنيان محاورة ويقدمان معاً بديلاً صوتياً عن شكري سرحان وماجدة الصباحي، في فيلم "بائعة الخبز"، عام 1953، وأيضاً استمع رواد السينما إلى صوتها مركباً على صورة الممثلة سلوى سامي، في استعراض "العروستين" مع شادية، من فيلم "لواحظ" عام 1957.
تعاملت برلنتي حسن مع عدد كبير من الملحنين، وقدمت أشكالاً مختلفة من فنون الغناء، لكن بقيت الإذاعة ميدانها الأول، ومن خلالها قدمت عشرات الأعمال، واشتركت في كثير من الصور الغنائية. ولدت في القاهرة عام 1932، وأحبّت الغناء مبكّراً، لكنها تعامت معه تعامل الهواة، إلى أن أخذت طريقها إلى عالم الاحتراف. تتحدث مصادر متعددة عن إعجاب الملحن المصري الرائد محمد القصبجي بصوتها، وعن رعايته لها، بل وعن تلحينه طقطوقة لأجلها بعنوان "يا شاغل بالي عقبالك".
لكن المهتمين بجمع أغاني حسن لا يجدون في تسجيلاتها التي نشرتها بعض المنصات الموسيقية المتخصصة أي عمل من ألحان القصبجي. ومن المرجّح أن الإذاعة المصرية ما زالت تحتفظ بقدر لا بأس به من أعمال هذه المطربة التي تألقت لفترة قصيرة نسبياً، لكنها كانت كافية لإنجاز عشرات الأعمال الغنائية، والتعاون مع عدد كبير من المؤلفين والملحنين.
تجمع المصادر على أن برلنتي حسن ولدت عام 1932، كما أن غالبية المصادر تُحدد تاريخ رحيلها بعام 1957، مع اختلاف حول اليوم والشهر، لكن إشكالات عدة تصعّب قبول هذا التاريخ، لأنه يعني أن الرحلة الفنية للمطربة لم تتجاوز سبع سنوات، وأنها ماتت دون أن تتخطى الـ25 عاماً.
ولا ريب في أن رحيل مطربة مشهورة في مثل هذه المرحلة العمرية يمثل حدثاً لافتاً، تهتم به الصحافة، وتحفظه الذاكرة الفنية، لكن لا يجد الباحث أي مصدر معاصر لهذه الفترة والسنوات التالية لها يشير من قريب أو بعيد إلى حدث كهذا. ثم يأتي الإشكال الأكبر في ظهور تسجيلات بصوتها يمنحها أرشيف الإذاعة توثيقاً تاريخياً ضمن أوائل الستينيات.
وحتى هذا التاريخ، وجد من يعترض عليه، ويؤكده أن المطربة تزوجت، وأنجبت ثلاث بنات، وعاشت حتى عام 1971، وأن التواريخ السابقة ربما كانت مرتبطة بتقليص نشاطها الفني، مع أواخر الخمسينيات، ثم انسحابها الكامل من الحياة الفنية قبيل منتصف الستينيات. معظم الشواهد ترجّح هذا التاريخ.
رغم القصر النسبي لمسيرتها الفنية، فقد تعاملت مع عدد كبير من الملحنين، ومن أبرزهم: زكريا أحمد، وأحمد صدقي، ومحمود الشريف، وحسين جنيد، وعزت الجاهلي، ومرسي الحريري، وعبد الحليم نويرة، وفؤاد حلمي، وفريد غصن، وأحمد صبرة، وسيد مكاوي، ومحمد الموجي، وأحمد عبد القادر، وعبد الرؤوف عيسى.
لكن نصيب الملحنين من أغاني برلنتي حسن يتفاوت تفاوتاً كبيراً، بين مكثر ومقل، ويأتي أحمد صدقي ومحمود الشريف وحسين جنيد في صدارة الموسيقيين الذين أكثروا من تقديم الألحان للمطربة الشابة، سواء في أغانيها الإذاعية، أو مشاركاتها السينمائية. مثلاً، صاغ لها صدقي عدداً من أهم أغانيها، من أشهرها: "صلى وصام لله"، و"حبايب فرحوا واتهنوا"، و"أنا شاري مش بايع"، و"نور الأصيل"، و"صوت الشباب"، و"قول الحق"، و"ما أحبش حد يخدعني".
ومن ألحانه الجديرة بلفت الانتباه ذلك الموشح الذي صاغه الشاعر الغنائي عبد الفتاح مصطفى، ضمن البرنامج الغنائي الإذاعي "في ربى الأندلس"، ويقول مطلعه: "جمال الحياة لمن يجتليه، وزهر الرياض لمن يجتنيه". جاء اللحن حاملاً للأجواء الأندلسية، وبجمل مطربة من مقام البستنيكار، وإيقاع المحجر، مع تبادل قوي بين المطربة وجوق نسائي، ثم تبادل مع جوق رجالي، وقد أدته المطربة بصوت ناضر مشرق.. وهو مثال للمستوى الذي كانت عليه البرامج والصور الإذاعية ذات الطابع الدرامي، وكانت برلنتي من أهم نجومها، ويمكن الاستماع إلى كثير من تلك الصور والبرامج التي أتاحتها الإذاعة على مواقع النشر الرقمي، ومنها الصورة الغنائية "المسحراتي"، من تأليف عبد العزيز سلام، وألحان سيد مكاوي، و"الورد والتمرحنة"، تأليف إبراهيم محمد نجا، وتلحين عطية شرارة، و"مدينة الملاهي"، تأليف بيرم التونسي، وألحان عزت الجاهلي.
كانت برلنتي حسن صوتاً مقنعاً للملحن السكندري الأشهر حسين جنيد، فصاغ لها عدداً كبيراً من الألحان المختلفة، ومنها: "أستغفرك يا رب في كل خطوة قدم"، و"أجمل صباح"، و"عايزني أصارحك"، و"رضيت بعادك ليه عني"، و"مين شاف النورس"، و"غني يا قلبي". ويرى كثير من هواة التسجيلات أن أهم ألحان جنيد لبرلنتي تمثل في قصيدة "لقاء في الصحراء" للشاعر إبراهيم رجب.
تكمن أهمية هذا اللحن في كونه نموذجاً صالحاً لفهم تعامل الملحنين مع النصوص الفصيحة، خلال خمسينيات القرن الماضي، في ظل طغيان القصيدة السنباطية، الموضوعة لأم كلثوم. كان الأثر السنباطي واضحاً في لحن جنيد، لا سيما في أسلوب البناء الدرامي، لكنه لم يجاره في حبكة القفلات، ربما لكون القصيدة إذاعية، لا محفلية. كان غناء برلنتي للنص متفوقاً يأسر المستمع ويرضيه.
ومن الشعر الفصيح أيضاً، قدم فؤاد حلمي لبرلنتي واحداً من أجمل ألحانه، هو قصيدة "الصوت الخالد"، للشاعر مصطفى عبد الرحمن، ويقول مطلعها: "أي صوت خالد الإيقاع عذب النغمات.. طاف كالبشرى علينا وسرى كالأمنيات". وأثبتت المطربة مرة أخرى قدرتها على التعامل مع الألحان الكبيرة.
اشتهرت برلنتي حسن في الأوساط الفنية بأنها مطربة الطبيعة، لاهتمامها الكبير بالغناء الوصفي، وميلها إلى الكلمات التي تتحدث عن الزهور أو الورد، أو القمر، أو النيل. ومن أمثلة أغانيها ذات الطابع الوصفي: "الورد فتح"، و"شموا النسيم"، و"أنا عندي الورد بستان"، وكلها من ألحان عبد الحليم نويرة، ومنها أيضاً: "معايا الورد" و"صباح الورد" من ألحان عزت الجاهلي، و"يا فجر نورك هل وبان" من ألحان محمد صلاح الدين، وأيضاً: "الصبح هلت أنواره" و"يا فل صبح على الياسمين" و"ورد جناينك" لمحمد إسماعيل.
وقد تمثلت ذروة أغانيها الوصفية في عملين من ألحان عبد الحميد توفيق زكي، هما "النيل والغروب"، و"أشرق الصبح فقومي يا طيور". اتسم كلا اللحنين بطابع درامي، ومسحة غربية في المعالجة المقامية والاختيارات الإيقاعية، ليخلق أجواء تأملية عميقة، في النيل والنخيل والشراع والغروب، مع صور وتشبيهات وجدانية. كان غناء برلنتي في اللحنين ذا مسحة أسمهانية.
بالنظر إلى قصر حياتها الفنية، تعد برلنتي حسن من أغزر المطربات إنتاجاً، ويمكن لمن يرغب في الاستماع إلى أغانيها أن يجد أكثر من 100 عمل، تتسم بالتنوع، في الشعراء والملحنين، والقوالب، كما تتنوع في موضوعاتها عاطفياً ووطنياً ودينياً ووصفياً، وأيضاً أغاني المناسبات، للزفاف، أو العيد أو شهر رمضان.
أحبت برلنتي حسن الغناء، وظلت تمارسه ممارسة الهواة خلال طفولتها وصباها، وقبل أن تكمل 18 عاماً، كانت قد التحقت بالإذاعة، لتصبح من ألمع مطرباتها. وكما احترفت مبكّراً، اختارت أن تبتعد عن الفن مبكراً، لكن آثارها الفنية باقية، شاهدة على رحلة ضاقت زمنياً، واتسعت غنائياً.
