المصوّر اليمني صادق الحراسي: صوري محاولة لتوثيق الغياب

1 day ago 4
ARTICLE AD BOX

صادق الحراسي فنان وحكّاء يشقّ طريقه بثبات في عالم الفنون البصرية من قلب اليمن إلى عواصم عربية وأوروبية. تنبع أعماله من تجربة شخصية عميقة، وتتقاطع مع أسئلة الهوية والذاكرة والفقد، لتمنح الصورة الفوتوغرافية دوراً يتجاوز التوثيق إلى التعبير الحميمي والتأمل. في هذه المقابلة، يتحدث لـ"العربي الجديد" عن محطات بارزة في رحلته، وعن كيفية تحوّل التصوير من هواية إلى وسيلة للبوح والسرد، وعن مشروعه المستمر الذي يسائل أثر الآباء في حياة أبنائهم.

بدايةً، كيف بدأت رحلة صادق الحراسي المهنية؟ وما هي اللحظات التي شكلت تحولات حاسمة في مسيرتك؟

بدأت رحلتي المهنية بعد تخرجي في الجامعة، حين التحقت بمؤسسة رموز للثقافة والفنون في صنعاء. كانت تجربة مهمة بالنسبة لي، لكنها لم تدم طويلًا بسبب جائحة فيروس كورونا التي أوقفت أنشطة المؤسسة. بعدها، اتجهت إلى العمل مع منظمات تُعنى بحقوق الإنسان، وكنت طوال تلك الفترة أمارس الفنون هوايةً أكثر من كونها مصدر دخل. بدأت الكتابة في مرحلة مبكرة، وكنت أنشر نثراً وقصصاً قصيرة، من بينها قصة نشرت في مجموعة "صراع الأدب الجديد في اليمن" عام 2019. مع الوقت، تطورت تجربتي إلى البودكاست وصناعة الأفلام وكتابة السيناريوهات لمنظمات غير حكومية ومسابقات وحملات إعلانية، وكانت مشاريع خفيفة عموماً، لكنها ساعدتني على صقل أدواتي.

هل تذكر اللحظة التي شعرت فيها بأنك قادر على استخدام الصورة وسيلةَ تعبير؟

التصوير بالنسبة لي كان دائماً هواية، لكن عام 2020 تغيّر كل شيء. تواصل معي مدير تحرير مجلة المدنية حمزة شيبان، وطلب مني تغطية قصة فوتوغرافية. كنت شديد التردد، لأني لم أكن أعتبر نفسي مصوراً، وما زلت في الحقيقة لا أرى نفسي مصوراً محترفاً، لكني قبلت التحدي، وصورت قصة عن شارع المطار في صنعاء. بعدها بفترة، تواصلت معي المفوضية السامية للاجئين للمشاركة في معرض شبابي رقمي بالتزامن مع زيارة مبعوث الأمم المتحدة لليمن. لم يكن المعرض رقمياً فقط، بل أقيم أيضاً في مركز بازار في بروكسل، وشاركت فيه بمشروع ضم أربع صور تقريباً.

ماذا عن مشاركتك في معرض "سوما آرت" الفوتوغرافي في برلين؟

عام 2022، شاركت بمشروعي في معرض "سوما آرت" الفوتوغرافي في برلين، قبل أن ينتقل لاحقاً إلى مهرجان الصورة في عمّان. لم أكن أتوقع قبوله، وكنت مُفاجَأً لأنني لم أدرس التصوير أكاديمياً، وكنت أصوّر بهاتفي المحمول خاصة مع اشتداد الحرب في اليمن، حيث أصبح حمل الكاميرا محفوفاً بالمخاطر وتُعامل أحياناً بوصفها سلاحاً. هذا الواقع جعل التصوير بالهاتف أداتي الرئيسية، وتعلقت به كثيراً. الورشة التي حضرتها في عمّان كانت محطة مفصلية بالنسبة لي. كانت أول مرة ألتقي فيها مصورين عرباً وعالميين. هناك شعرت بأن التصوير الوثائقي، والاستخدام البصري للرواية، يشبهني جداً. لاحقاً انتقلت إلى برلين، وانفتح لي باب جديد للتعلم، وتعمقت في التجربة البصرية أكثر. من هنا بدأ "الزين"، مشروع شخصي لم يُنشر بعد، لكنه عُرض ضمن مخرجات ورشة في متاحف قطر. هو محاولة مني لفهم مشاعري، ولرسم مقاربة بيني وبين والدي الراحل. نحن نتشابه كثيراً، حتى إن أهل قريتنا يعتقدون أنني هو كلما زرتها. والدي توفي وأنا في الحادية عشرة من عمري، وكان من المفترض أن يسافر إلى مصر للعلاج في اليوم نفسه. ظلّت فكرة وفاته مؤلمة، وكنت أتهرب من مواجهتها، بل كنت أعتقد في أعماقي أنه لا يزال على قيد الحياة. هذه المشاعر شكلت جوهر مشروع "الزين"، الذي كان بالنسبة لي وسيلة للتصالح مع فقدي، وللحديث مع والدي بطريقتي.

من كان له التأثير الأكبر على توجهاتك الفنية والمهنية؟

مصدر إلهامي الأكبر هو أمي. منذ أن فتحت عيني على الدنيا، كانت تروي لي القصص وتغني طوال الوقت. ولم تكن تغني الأغاني المتداولة، بل أغانيَ خاصة بها، مرتجلة ونابعة من تجربتها ومشاعرها. هذا بالنسبة لي شكل عميق من أشكال التعبير. أما والدي، فكان يكتب الشعر ويوثق حياته من خلاله. شعرت أن من الطبيعي أن يكون لي أيضاً وسيلتي الخاصة في التوثيق، فاخترت الفن، وتحديداً البودكاست والتصوير الفوتوغرافي.

هل هناك تجربة معينة تعتبرها مصدر إلهام دائم في مسيرتك؟

نعم، بدأت فكرة مشروعي "ماذا يترك الآباء خلفهم؟" عام 2023 بوصفه أرشيفاً شخصياً وعائلياً، أوثق فيه تفاصيل الحياة اليومية، وأسجّل مقابلات عفوية مع أمي. وبدأت أبحث عن تسجيلات فيديو قديمة، خاصة لأعراس عائلية على أمل أن أرى والدي. كان المشروع آنذاك محاولة شخصية لفهم الغياب، وتأمل أثر الأبوة في الذاكرة. لم أتوقع خروج المشروع من إطاره الشخصي والعائلي، بيد أنّ حصولي على منحة الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) ضمن برنامج التصوير الفوتوغرافي الوثائقي لعام 2024، شكّل دفعة كبيرة وشجّعني على مواصلة العمل عليه بجدية واهتمام أكبر. أطمح من خلال هذا المشروع للإجابة عن سؤال وجودي: ماذا يترك الآباء خلفهم؟ وهو سؤال مفتوح يمكن لكل شخص الإجابة عنه بطريقته، أما أنا فأحاول أن أجيب بالصور، عبر مزيج من الخيال ومساحة كبيرة من التجريد.

ماذا تقول عن مشاركتك أخيراً في "سلايد فيست سَفر" الذي أقيم تمهيداً لمهرجان سفر السينمائي في لندن؟

"سلايد فيست سفر" محطة فارقة، كونه أول منصة يخرج من خلالها مشروعي "ماذا يترك الآباء خلفهم؟" إلى نطاق عالمي. التجربة كانت مختلفة، ليس فقط من حيث جمهورها، بل أيضاً من حيث طبيعة العرض البصري وكيفية تأثير الصور على المتلقّي. هذا الحدث أتاح لي أن أرى كيف يمكن للتصوير أن يتجاوز التوثيق، ليصبح وسيلة لنقل الإحساس والأفكار بشكل عميق وغير تقليدي. سبق أن عرضت المشروع في مهرجان الصورة في عمّان، وهناك استمعت إلى آراء الحضور وتفاعلاتهم، وأيضاً ساعدني على فهم أعمق لكيفية تلقّي العمل. أمّا مع "سفر"، فقد خضت تجربة تفاعل من نوع مختلف، مع جمهور متنوع وجديد.

ما الذي تسعى لتحقيقه من خلال مشروعك؟

أسعى من خلال هذا المشروع إلى تقديم تجربة بصرية تفتح باب الحوار مع الجمهور، إذ يهمني أن أسمع كيف يستقبله الناس، وهل تصل الرسائل والمشاعر التي أحاول إيصالها. أرغب في فهم إلى أين يمكن أن يأخذهم هذا العمل، وكيف يمكن أن يتطوّر من خلال تفاعلهم معه. حين بدأت المشروع العام الماضي، قضيت خمسة أشهر في عمّان، التقيت خلالها أشخاصاً كثراً وناقشت معهم تفاصيل المشروع. ما فاجأني حقاً هو تنوع الأفكار وردات الفعل التي لم أكن أتوقعها، وقد ساعدتني هذه اللقاءات بشكل كبير في بلورة رؤيتي. أحياناً أختار ألا أُركّز على جوانب معينة لأسباب شخصية، لكن أسئلة الناس تعيدني إلى التفكير فيها بطرق لم أكن أتصوّرها. وهذا بالضبط ما أطمح إليه: أن يصبح المشروع مساحة مشتركة للتأمل والتساؤل، لا مجرد عمل فني منغلق على ذاته.

ما الرسالة التي تودّ أن توجهها إلى جمهورك من خلال أعمالك؟

أنا منبهر بقدرة الصورة على ملامسة مشاعر عميقة، وعلى تجسيد الأشخاص واللحظات بطريقة قد تبقى في الذاكرة. ما يميّز التصوير الوثائقي بالنسبة لي هو تلك المساحة الحرة التي يتيحها للفنان كي يجرّب، يروي، ويوثّق قصته بنفسه، ويكون صاحب السردية في موضوعه. دائماً أقول لأصدقائي: لدينا في اليمن تجارب كثيرة وعميقة من الضروري أن نتحدّث عنها، لأننا إن لم نفعل، فسيتولى آخرون سردها، وربما لن تُروى بالشكل الذي يعكس حقيقتها أو الطريقة التي كنّا نودّ أن تُقال بها. أحياناً، حتى من هم من بيننا، قد يعجزون عن نقل القصة بالشكل الذي تستحقه، فنشعر بالخذلان لأن الرسالة لم تصل كما ينبغي. لهذا، بدلاً من إلقاء اللوم، اخترت أن أروي قصتي وبعض القصص القريبة مني، لا لأتحدث نيابة عن الآخرين، بل لأتشارك معهم السرد والتجربة الفنية والوثائقية. إشراك الناس في عملي هو جوهر ما أقوم به، لأنه السبيل الوحيد في نظري لصناعة عمل صادق، حيّ، وقادر على الوصول بصدق إلى الآخرين.

Read Entire Article