المحللون والتحليل السياسي.. تباعد المسافات

1 day ago 2
ARTICLE AD BOX
الكاتب..محمد وهاب عبود
 التحليل السياسي في صورته المشرقة ليس مجرد قراءة لخبر عابر أو تعليق سريع على حدث آني، بل هو علم يرتكز على المعطيات الدقيقة، وفن فك رموز المشهد المعقد، ومهارة في استشراف الآتي من رحم الحاضر المضطرب، وعقلية نقدية متجردة ترفض السطحية وتتوغل في الأعماق.
إنه العين المبصرة التي يُفترض بها أن تُضيء دروب الجمهور التائه في غياهب السياسة المعقدة، وتقدم له بوصلة عقلانية لفهم ما يدور حوله. أي ذلك الصوت الذي يرفع الحجب ويكشف المستور، ليُمكن الناس من اتخاذ قرارات مستنيرة،
 أو على الأقل، لفهم المصير الذي يُحاك لهم في دهاليز السياسة وأروقة القرار، لكن ما يلبث هذا التعريف أن يتلاشى حين نُلقي نظرة فاحصة على شاشات قنواتنا الفضائية وأثير إذاعاتنا. فنجد بعض من يُطلقون على أنفسهم “محللين سياسيين” وقد فضلوا ركوب موجة الشعبوية العاتية، متقنين فن بيع الأوهام بكلمات رنانة وعبارات مكررة. يدغدغون العواطف الجياشة على حساب المنطق الرصين، ويُغرقون الجمهور في بحر من التحيز العاطفي بدلاً من هدايته إلى شاطئ اليقين.
وللأسف، يتعاون معهم بعض مقدمي البرامج ـ الذين قد يُغديهم سعي محموم للشهرة المؤقتة والارتزاق السريع ـ في سيمفونية إعلامية نشاز، لا تسعى لتعميق الوعي، إنما لتخدير العقول وتصوير الواقع بمنظور مضلل، وكأن الحقيقة محض بضاعة تُعرض للبيع والشراء في سوق الفضائيات.
إن التحليل السياسي قد يتحول في العراق إلى قناع محكم الصنع، أو واجهة شفافة يُقدم من خلالها رأي لا يمت للتحليل بصلة. يختبئ خلف هذا القناع الانتماء الحزبي الضيق أو الولاء الفئوي أو حتى المصلحة الشخصية المحضة.
يُقدم الرأي وكأنه حقيقة مطلقة، وتُطرح الأفكار كأنها استنتاجات علمية لا تقبل الجدل، في محاولة بائسة لتلوين الواقع بألوان أجندة معينة، لا تعكس بالضرورة نبض الشارع أو مصلحة الوطن. هنا، يتحول المحلل إلى صوت يصدح بما يُملى عليه، لا عقلا يُعمل الفكر فيما يُدرك.
إن أبعاد هذا التحليل المُغرض تتجاوز مجرد التشويه؛ إنه قد يراد منه التلاعب الصريح بالرأي العام وتوجيه بوصلة الشارع نحو وجهة مرسومة سلفا.
في مواسم الانتخابات مثلاً، يُصبح المحلل كساحر بارع على خشبة مسرح الحياة السياسية، يُلقي تعويذاته الإعلامية ومستخدما فنون الكلام المنمّق، ليس لتحليل الخيارات المطروحة بشفافية، بل لتحويل مسار الأصوات وتشويه سمعة المنافسين، أو تلميع صورة المرشحين التابعين، مستغلا يأس الناس وتطلعاتهم الكبرى للتغيير، في رسم لوحة زائفة لواقع مزيف، لا يلبث أن يتبدد بعد ظهور النتائج، ليترك خلفه خيبة أمل مررة ومزيدا من فقدان الثقة.
يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير: “إذا أردت أن تتحدث معي، عرّف مصطلحاتك”. ولنُطبق هذا على المحللين؛ لنُطالبهم بتعريف مصادرهم، وبإعلان أجنداتهم إن وجدت، وليقدموا برهانا عقليا على ما يطرحونه من أفكار لا مجرد عواطف ومزايدات. إنها دعوة للوعي، دعوة لعدم التهافت خلف كل صيحة إعلامية، فصحة المجتمع تبدأ من صحة المعلومة.هذه ليست دعوة إلى تكميم الأفواه أو مصادرة الآراء، فحرية الرأي والتعبير هي الأساس المتين لأي مجتمع حيوي وديمقراطي ينشد التقدم والازدهار. بل نداء إلى عودة التحليل السياسي إلى مجاله النبيل كمنارة تضيء العتمة، ومشرط يُزيح الأورام، وعقل يُفكر بمسؤولية، بعيداً عن التضليل أو التخدير. لتكون الشاشات في العراق مرآة حقيقية تعكس أوجاع الوطن وتطلعاته، لا مجرد قناع يخفي وجها مشوها للحقيقة، ولا بوقا يصدح بغير صوت الشعب. فالصدق وحده هو الذي يبني الثقة، والثقة هي قنطرة العبور نحو مستقبل أفضل.
الصباح
Read Entire Article