"اللقاء القاتل" بين كمال جنبلاط وحافظ الأسد: بشاعة الحرب في وثيقة

1 day ago 4
ARTICLE AD BOX

بعد إطاحة نظام الأسد في سورية في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، لم تُرفع الستارة عن داخل سوري منهك فحسب، بل أيضاً عن أحداث مرتبطة بالجوار، وبطبيعة الحال لبنان، الجار الغربي لسورية، خصوصاً في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد. واقعتان برزتا في "سورية الجديدة"، حتى تاريخه، ترتبطان بزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط المُغتال في 16 مارس/آذار 1977. الأولى، الإعلان عن اعتقال اللواء إبراهيم حويجة، في 6 مارس الماضي، الذي وصفه مصدر من إدارة الأمن السوري في حينه لوكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا)، بأنه "متهم بتنفيذ بمئات الاغتيالات" في عهد عائلة الأسد، بينها "الإشراف على اغتيال" كمال جنبلاط في لبنان. الثانية نشر وثيقة على شكل كتاب صدر قبل أيام بعنوان "اللقاء القاتل" (دار نوفل ــ بيروت)، يتناول فيه مقدمه ومعده هادي وهاب، "محضر الجلسة الأخيرة بين حافظ الأسد وكمال جنبلاط"، في 27 مارس 1976، بين الساعة 12:45 ظهراً وحتى الساعة 8:15 ليلاً في دمشق، وحصلت بعد اجتماعات سابقة ومكثفة بينهما إثر اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في 13 إبريل/ نيسان 1975. وبعد عام على حصول ذلك "اللقاء القاتل"، اغتيل كمال جنبلاط عند منعطف قرية دير دوريت في قضاء الشوف ـ جبل لبنان، منطقة نفوذ السياسي اللبناني وحزبه.


طرح كمال جنبلاط على حافظ الأسد تشكيل حكومة لبنانية تضمّ وزيراً فلسطينياً

دور كمال جنبلاط في الحرب اللبنانية

ولقارئ عربي أن يفهم خلفية الأحداث التي تتناولها الوثيقة ــ الكتاب. نحن في عز ما يُعرف في لبنان بـ"حرب السنتين" (1975-1976)، بين الجبهة اللبنانية، التي ضمّت غالبية الأحزاب المسيحية (الكتائب اللبنانية، حزب الوطنيين الأحرار بشكل أساسي وأحزابا أصغر حجماً) والحركة الوطنية، التي ضمّت منظمة التحرير الفلسطينية ومعظم الأحزاب اليسارية والإسلامية والقومية. ومع انقسام العاصمة إلى بيروت الغربية، الواقعة تحت سيطرة الحركة الوطنية، وبيروت الشرقية الخاضعة للجبهة اللبنانية، تمدد القتال في أنحاء عدة من جبل لبنان والشمال.

وفي ربيع عام 1976، كان الوضع العسكري للجبهة اللبنانية محفوفاً بالمخاطر، بل إنها كانت عملياً محاصرة في منطقة ضيقة جغرافياً، تمتد بين وسط بيروت ومداخل طرابلس، شمالي لبنان. وفي المنطق العسكري، فإن الضغط الذي مارسته الحركة الوطنية، بلغ حد احتمال إسقاط بكفيا في المتن الشمالي، شمالي بيروت، وهي مسقط رأس مؤسس الكتائب بيار الجميل. بالتالي، فإن سقوط هذه المنطقة، كان سيمهد لتراجع أحزاب الجبهة اللبنانية شمالاً، وسقوط جبل لبنان بكامله بيد الحركة الوطنية. آنذاك، كان كمال جنبلاط أبرز رموز الحركة الوطنية وصاحب نظرية "الحسم العسكري" للقضاء حربياً على "الجبهة اللبنانية" وهو ما رفضه الأسد، وهذا محور الكتاب ــ الوثيقة.

في ذلك الوقت، ارتفعت الأصوات المطالبة بوقف القتال و"حماية المسيحيين" في لبنان، وسط تحذيرات أميركية، عبر وزير الخارجية في ذلك الحين هنري كيسنجر، الذي لوّح للأسد بأنه "في حال عدم تدخل سورية في لبنان، فإن إسرائيل ستتدخل". والأسد الخارج من حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، كان يخشى الدخول الإسرائيلي إلى لبنان، الذي طالما وصفه بأنه "خاصرة سورية الضعيفة". وراج، في ذلك الحين، أن "سورية تدخلت لحماية المسيحيين"، فيما أن الأسد ذكر في خطاب له في 20 يوليو/تموز 1976 في جامعة دمشق، أن جيشه تدخل في لبنان "لمنع تقسيم البلاد ووقف الاقتتال الداخلي"، موضحاً أنه تدخل "استجابةً لطلب من بعض الأطراف اللبنانية"، مشيراً إلى أن الرئيس اللبناني في حينها سليمان فرنجية لم يُستشر مسبقاً. لاحقاً انتهى دور الوساطة السورية، مع تحولها إلى قوات احتلال واصطدامها مع كل الأطراف التي طلبت منها التدخل. اصطدم الجيش السوري مع الحركة الوطنية ومع الجبهة اللبنانية ومع إسرائيل ومع المنظمات الفلسطينية ثم مع الجيش اللبناني على امتداد 15 عاماً من الحرب في لبنان. وانتهت الحرب بتفاهم سوري ـ أميركي، في 13 أكتوبر 1990، حين توافقت دمشق وواشنطن على إنهاء حالة رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، الذي كان قائداً للجيش اللبناني. وجاء التوافق على وقع تأييد سورية تحرير الكويت من جيش صدام حسين.

في المحضر المذكور، برزت محطات عدة، منها إصرار كمال جنبلاط على "الحسم العسكري" أو كسر حزب الكتائب اللبنانية، بقيادة بيار الجميل. في مرّات عدة على امتداد الكتاب ــ الوثيقة، يخلط جنبلاط بين مصطلحي "الكتائب" و"المسيحيين"، رغم أنه في مرّات أخرى كان مصرّاً على أن الاقتتال في لبنان ليس مذهبياً ولا دينياً، بل ضد الكتائب حصراً، معتبراً أن علاقاته مع المسيحيين في مناطق نفوذه دائماً كانت ودّية. في محضر الجلسة يظهر كم أن كمال جنبلاط كان مصراً على إنهاء الوجود العسكري للكتائب، مستخدماً عبارات مثل "السحق" و"الكسر"، مستحضراً في حواره مجازر الجبل بين الدروز والموارنة في عام 1860. حتى أنه ركّز بشكل خاص على مناطق استراتيجية على طريق بيروت ـ الشام، تحديداً الكحالة، التي تحولت إلى نقطة متقدمة للكتائب في خرائط الحروب اللبنانية. وانتقد جنبلاط بشدة أيضاً زعماء الموارنة، خصوصاً رئيس الكتائب بيار الجميل، ورئيس الجمهورية سليمان فرنجية، منادياً بضرورة إنهاء الامتيازات المسيحية التي خلّفها الانتداب الفرنسي للبنان قبل الاستقلال في عام 1943. ورفع جنبلاط شعار العلمنة الكاملة في لبنان، كما طرح على الأسد تشكيل حكومة لبنانية تضمّ وزيراً فلسطينياً، وهذه النقطة قد تكون من الأمور "الجديدة" فعلاً التي يكشفها كتاب ــ محضر هادي وهاب.


أوحى الأسد في جلسة السبع ساعات ونصف الساعة، أنه لاعب لا غنى عنه في الشرق الأوسط

حافظ الأسد و"حماية الأقليات"

في المقابل، أوحى الأسد في جلسة السبع ساعات ونصف الساعة، أنه لاعب لا غنى عنه في الشرق الأوسط. وغلّب على حواره مع جنبلاط الأبعاد الإقليمية، المنبسطة من العراق إلى مصر، وضمنها إسرائيل وفلسطين، بالإضافة إلى أهمية المحافظة على "عروبة مسيحيي لبنان"، وفقاً له، وذلك لأن الضغوط الدولية، خصوصاً من الولايات المتحدة والفاتيكان، من أجل حماية مسيحيي لبنان، كانت هائلة. كما أن الأسد واظب طيلة الجلسة على تذكير جنبلاط بإسرائيل، ودورها بعد حرب أكتوبر 1973، وأن تدخلها قد يكون محتملاً في لبنان (حصل عملياً في اجتياحي 1978 و1982). وأكد الأسد لجنبلاط أن مطلب دخول الجيش السوري إلى لبنان، كان مطلباً للحركة الوطنية، التي كان جنبلاط أبرز أركانها. ومع أن الحوار بين الرجلين تشعّب وتمدد باتجاهات عدة، سواء تلك المتصلة بالوقائع العسكرية الميدانية، أو بضرورة تغيير النظام اللبناني، بفعل إيمان جنبلاط بأن الحسم العسكري بات قريباً، غير أن الأسد، الذي استخدم مصطلح "القهر" لمنع انتصار الحركة الوطنية، شدّد على وجوب وقف الحرب من دون كسر أي طرف. وقد تكون هذه الجلسة، التي انتهت بالخلاف العميق بين الأسد وجنبلاط والتي سرّعت اغتيال الأول بعد عام، بالغة الأثر على إيحاء الأسد بأنه "حامي الأقليات" في الشرق الأوسط، علماً أن الدروز أنفسهم من الأقليات أيضاً. كذلك فإن الأسد بذاته الذي رفض "كسر" المسيحيين في لبنان، تحول إلى قتالهم لاحقاً، بدءاً من حرب الأشرفية، في ضواحي بيروت الشرقية في صيف عام 1978.

Read Entire Article