ARTICLE AD BOX
لم تغب الدعوات المطالبة باعتماد مبدأ اللامركزية السياسية في سورية منذ إسقاط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهو ما تعتبره الإدارة السورية الجديدة خطوة نحو التأسيس لتقسيم البلاد إلى "كانتونات" هشة، على أسس عرقية وطائفية، وتدفع باتجاه الاحتراب الأهلي في بلاد خرجت منهكة على مختلف المستويات، من سلطة استبدادية راكمت الكثير من المظالم. وجدد قائد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، مظلوم عبدي، في حوار تلفزيوني يوم الجمعة الماضي، مطالبته باعتماد اللامركزية السياسية في سورية، مشيراً إلى أن الأكراد "منفتحون" على الحوار مع دمشق ضمن هذا الإطار، متجنباً استخدام مصطلح الفيدرالية لأن الحديث عنه "يُقابل بحساسية من دمشق"، التي ترى في ذلك تهديداً لوحدة البلاد، رغم أن "المطلب الكردي لا يهدف إلى الانفصال"، وفق عبدي. وجاءت تصريحات عبدي، التي نشرت الجمعة، قبل يوم من توجه وفد الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية، وهي ذراع مدنية لـ"قسد"، إلى دمشق لبدء مفاوضات مع الحكومة لحسم مصير الشمال الشرقي من سورية.
وكانت قوى سياسية كردية أقرت أواخر إبريل/نيسان الماضي وثيقة دعت إلى "سورية لا مركزية" وإلى نظام حكم برلماني "يتبنّى التعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة وفصل السلطات، كما يعتمد مجالس المناطق في إطار النظام اللامركزي". ولم تتأخر الرئاسة السورية في الرد على هذه المطالب، مؤكدة في بيان يومها رفضها القاطع لأي محاولات "لفرض واقع تقسيمي أو إنشاء كيانات منفصلة بمسميات الفيدرالية أو الإدارة الذاتية من دون توافق وطني شامل". وأضافت: لا يمكن لقيادة قسد أن تستأثر بالقرار في منطقة شمال شرقي سورية، إذ تتعايش مكوّنات أصيلة كالعرب والأكراد والمسيحيين وغيرهم. وأكدت أن رفضها "مصادرة قرار أي مكوّن واحتكار تمثيله أمر مرفوض"، مشيرة إلى أنه "لا استقرار ولا مستقبل من دون شراكة حقيقية وتمثيل عادل لجميع الأطراف".
مؤيد غزلان: طرح اللامركزية السياسية في الوقت الراهن "يُقرأ على أن هدفه هو الانفصال"
طرح اللامركزية السياسية في سورية
تبدو اللامركزية السياسية في سورية صعبة التحقيق في الشمال الشرقي، فالعرب يشكلون غالبية سكانه، وجلّهم مع مركزية السلطة في الوقت الحالي، ويرفضون الدعوات لاعتماد مبدأ اللامركزية. وتخلو المناطق التي تسيطر عليها قوات "قسد" من محافظتي الرقة ودير الزور من أي حضور سكاني كردي، ما يعني عملياً أن هذه المناطق غير معنية بأي طرح سياسي كردي حول اللامركزية السياسية في سورية أو غيرها من نظم السلطة. ولا يوجد ارتباط جغرافي بين الأكراد السوريين المنتشرين في القامشلي وريفها وفي مناطق بريف حلب مثل عين العرب (كوباني)، وعفرين، فضلاً عن حضور في مدينتي حلب ودمشق.
في السياق، قال فيصل يوسف، وهو المتحدث باسم "المجلس الوطني الكردي"، المظلة السياسية الأوسع في المشهد الكردي في سورية، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "المجلس يرى أن الشكل الأمثل للدولة السورية المستقبلية هو الدولة الديمقراطية التعددية اللامركزية، القائمة على الاعتراف الدستوري بحقوق كافة المكونات القومية والدينية، وضمان حقوق الشعب الكردي كشعب أصيل في البلاد". بيد أنه أكد أن "هذا الموقف قابل للنقاش"، مشيراً إلى أن المجلس "يؤمن بالحوار". وأضاف يوسف: غير أن المبدأ الأساسي الذي لا يمكن التخلي عنه، هو رفض العودة إلى مركزية السلطة. وتابع: اللامركزية السياسية في سورية هي الضامن الحقيقي لوحدتها واستقرارها، إذ تتيح توزيع السلطة والموارد بعدالة بين مختلف المناطق، وتمكين المكونات المحلية من إدارة شؤونها ضمن إطار وطني. ورأى أن اللامركزية السياسية في سورية "تحدّ من الاستبداد، وتمنع تكرار تجربة الحكم الأمني والمركزي الذي أضر بكل السوريين"، لافتاً إلى أنه بالنسبة للأكراد، فإن اللامركزية تعني أيضاً إطاراً دستورياً يمكن من خلاله صون هويتهم القومية، ولغتهم، وحقوقهم السياسية والاجتماعية ضمن سورية موحدة.
بدوره، قال القيادي الكردي شلال كدو، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الأكراد في سورية "اتفقوا على أن سورية يجب أن تكون لامركزية برلمانية ديمقراطية"، مضيفاً: سنطالب بذلك في المفاوضات مع دمشق. وتابع: "النظام اللامركزي هو الأنسب لسورية، كونها متعددة الثقافات والإثنيات والطوائف، والنظام الديكتاتوري المخلوع دمر جسور الثقة بين المكونات، ومن ثم فإن اللامركزية هي الحل في هذه المرحلة. اللامركزية قابلة للنقاش ولكن ليست قابلة للتنازل".
وحول مبررات الجانب الكردي للإصرار على اللامركزية السياسية في سورية، أشار الباحث السياسي المقرب من الإدارة الذاتية إبراهيم مسلم، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "التهميش" هو الدافع الرئيسي لهذا المطلب. وتابع: الأنظمة التي تعاقبت على السلطة في سورية، همّشت الأكراد في البلاد. وأي كردي يكون في موقع القرار لا يعمل على ضمان مصلحة الأكراد. ولم يرَ مسلم مانعاً لمشاركة الأقليات في إدارة مناطقهم من النواحي كافة، مضيفاً: اللامركزية السياسية في سورية تعني مشاركة كل مكونات المجتمع السوري في إدارة شؤون حياتهم.
ولا تقتصر المطالبة بإقرار اللامركزية السياسية في سورية على المكون الكردي، بل ظهرت أصوات لها تأثير سياسي في الطائفتين العلوية والدرزية تدعو إلى اعتماد هذا المبدأ. وكرر حكمت الهجري أبرز المرجعيات الدينية في السويداء عديد المرات المطالبة باللامركزية في هذه المحافظة ذات الغالبية الدرزية من السكان، التي تعيش اليوم تبايناً سياسياً بين مختلف تياراتها حول العلاقة مع الحكومة المركزية في دمشق.
رأى الباحث السياسي مؤيد غزلان، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "اللامركزية في مراحل التنشئة السياسية تعتبر مجازفة سياسية ومجتمعية في الوقت ذاته"، مضيفاً: التركيبة الديمغرافية في شمال شرق سورية ليست نهائية، حيث سيكون هناك إعادة تموضع في حال تم الاتفاق بين الحكومة و"قسد". وتابع: التمثيل السياسي في شمال شرق سورية غير عادل وأحادي ولا يشمل كل المكونات، خصوصاً العرب. هناك تذمر كبير من العرب، تحديداً في محافظة الحسكة بسبب عدم تمثيلهم سياسياً، علماً أن اللامركزية تقتضي توزيعاً سياسياً وديمغرافياً عادلاً.
محمد صبرا: لم يسبق لدولة مركزية أن تمت تجزئتها إلى دولة فيدرالية باستثناء العراق
الفارق بين اللامركزية والانفصال
وبرأي غزلان فإن طرح اللامركزية السياسية في سورية في الوقت الراهن "يُقرأ على أن هدفه هو الانفصال"، مضيفاً: هذا الطرح لا يخدم الأهداف السياسية للشعب السوري في هذه المرحلة. وأعرب عن اعتقاده أن "غالبية الشعب تريد مركزية السلطة في دمشق وغير موافقة على الإدارات اللامركزية، لأن قوة الحكم في مرحلة التنشئة والمأسسة السياسية تتطلب مركزية القيادة". لكنه أكد أنه ربما في مرحلة يمكن طرح مسألة اللامركزية بعد الوصول إلى مرحلة نضوج سياسي مجتمعي. لا يمكن تغيير الخريطة السياسية الداخلية من دون استتباب للمجتمع السياسي الذي يحاول الخروج من تركة النظام المخلوع.
ورأى غزلان أن المرحلة التي تمرّ بها البلاد "تتطلب التعاضد مع السلطة المركزية، وليس التأسيس للانفصال تحت ذريعة الفيدرالية أو غيرها من الطروح"، مضيفاً أن هناك ريبة في أن الفيدرالية من عموم الشعب السوري الذي يعتبرها مقدمة لتقسيم البلاد. واعتبر أنه يتعين على الجميع احترام رأي الأغلبية من السوريين والتي ترفض اللامركزية وتطالب بمناصرة الحكومة السورية لتحقيق المزيد من النجاحات السياسية والاقتصادية.
في السياق، أوضح الخبير القانوني محمد صبرا، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الفرق بين اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية "كبير"، لأنّ الأمر متعلق بتحديد طبيعة الدولة وشكل النظام الدستوري فيها، بين أن تكون بسيطة كالدولة المركزية أو مركّبة كتلك التي تعتمد نظام اللامركزية. وتابع: اللامركزية السياسية تعتمد على مبدأ توزيع الوظيفة السياسية، وتوزيع الوظائف الثلاث الرئيسية (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، بين الحكومة الاتحادية في العاصمة وبين الوحدات السياسية في الولايات التي تحتفظ بدستورها الخاص وتشريعاتها وبرلمانها وحكومتها، وتكون مشرفة على كل مجالات الحياة، باستثناء إقامة علاقات مع الدول وإبرام اتفاقيات، لأنها لا تمتلك الشخصية القانونية وفق القانون الدولي، أو أن يكون لديها جيش خاص بها.
فيصل يوسف: الشكل الأمثل للدولة السورية المستقبلية هو الدولة الديمقراطية التعددية اللامركزية
النموذج العراقي
وبيّن صبرا أن اللامركزية الإدارية "تعتمد مبدأ توزيع الوظيفة الإدارية المتمثلة في الخدمات والتعليم والصحة والزراعة... بين الحكومة المركزية والهيئات الإدارية في المحافظات"، مضيفاً: في النشأة التاريخية، سياق تأسيس الدولة الفيدرالية يأتي من الخاص إلى العام، أي أن تتفق عدة مناطق على خلق دولة ذات شخصية معنوية في القانون الدولي، تعبر عن مصالح الوحدات الإدارية في هذه المناطق. كما أوضح أنه "لم يسبق لدولة مركزية أن تمت تجزئتها إلى دولة فيدرالية باستثناء التجربة العراقية، التي ما تزال تتأرجح ما بين النجاح والفشل". واعتبر صبرا أن لا مشكلة في شكل النظام السياسي سواء كان مركزياً أو لا مركزياً، مضيفاً: لكن المشكلة في الدوافع وراء تبنّي هذا النظام أو ذاك. وعندما يكون الدافع حماية مصالح الشعب على أساس جغرافي، فهو مختلف عندما يكون على أساس تمايز ديني أو عرقي. في هذه الحالة دخلنا في منظومة تناقض فكرة النظام الفيدرالي بحد ذاته.
وأوضح صبرا أن فكرة النظام الفيدرالي تقوم على مبدأ التنمية السياسية لأقاليم معينة. وبرأيه، فإن الوضع الإداري الذي كان سائداً في سورية "ليس سيئاً إذا تم تطوير قوانين الإدارة المحلية التي كانت مجحفة بحق السلطات المحلية"، مضيفاً: سورية مقسمة إدارياً إلى محافظات، وقانون الإدارة المحلية سواء القانون النافذ حالياً، وهو القرار 107 أو القانون الذي سبقه، يعطي كل محافظة استقلالاً إدارياً في العديد من المجالات، وكان مجلس المحافظة منتخباً وهو بمثابة برلمان مصغر يختار مجلساً تنفيذياً، ويصدر مجموعة من اللوائح تتعلق بالرسوم والضرائب وتنظيم أوجه الحياة.
وأشار إلى أن الإشكالية التي كانت موجودة تتمثل في تعيين المحافظ من قبل الإدارة المركزية "ما يسمح له بالتغوّل الإداري على حساب مجلس المحافظة". وأوضح أن هناك "تطوراً هائلاً في قوانين الإدارة المحلية في الدول الأوروبية، ويتم تطبيق مبدأ الديمقراطية التشاركية، بما يمنح للمواطنين القدرة على إدارة شؤون حياتهم بعيداً عن هيمنة المركز". لكنه أوضح أنه "للأسف لا يتم الحديث عن مبدأ الديمقراطية التشاركية في النقاش السياسي السوري، الذي ينحصر في اللامركزية السياسية والإدارية والذي يأخذ طابع نزاع ديني أو عرقي. أعتقد أن أساس هذا النقاش معيب، لأنه سيقود إلى نتائج معيبة في المستقبل، لذا يجب العودة إلى نقاش الديمقراطية التي تقوم على إشراك المواطنين في إدارة شؤونهم.
