القيمة المضافة في صفقات ترامب

4 hours ago 2
ARTICLE AD BOX

منذ إرساء آدم سميث لبنات علم الاقتصاد، ترسخت قناعات بالعلاقة الجدلية بين السياسة والاقتصاد. لكن العلماء والساسة لا يزالون مختلفين في ما إذا كان الاقتصاد يقود السياسة أم السياسة تدير الاقتصاد! وقد أضافت جولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخليجية، أخيراً، فصلاً جديداً في الجدل المفتوح في الفكر السياسي والاقتصادي لم يرد في مؤلف آدم سميث المعنون "ثروات الأمم". فصل ترامب يتمحور حول العلاقة بين الاقتصاد والسياسة الخارجية، فالرئيس الأميركي نقل بجولته الخليجية السياسات الخارجية بين الدول من التحالفات السياسية إلى الشراكات الاقتصادية. هو ليس أول من غرّد خارج السرب، قبله كسا رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير السياسة الخارجية لبلاده بزةً عسكرية، حينما زجّ قواته في خمس حروب، أبرزها العراق، كوسوفو، أفغانستان وسيراليون. بينما سعى الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك إلى إكساب السياسة الخارجية الفرنسية استقلالية قارّية بالنأي عن أميركا، جاء نيكولا ساركوزي ليصبح (بعد بلير) رجل أميركا المطيع في القارّة العجوز.

***

ربما لم يهز ترامب شجرة الواقع السياسي في المنطقة الملتهبة بالنار والدمار، لكن حصاد جولته الثلاثية يساقط جدلاً لن ينفد قريباً. بدوافع ليست خفية ولغايات مرئية، لا يرى فريق في الجولة إلا حصاد أربعة مليارات غنيمةً طار بها الرئيس الأميركي، كأنما قدّمها أثرياء غفلة إلى مقاول مخادع! لا أحد ينكر نفاذ مبادرة رجل الصفقات أميركيّاً، لكن المسألة لا تتطلب فطنة خارقة لتأطير الحصاد صفقات رابحة بين أنداد متساوين في الحصافة السياسية والاقتصادية. كما لا تتطلب جهداً جهيداً للاعتراف بأنها استثمارات في المستقبل، تنتفع بعائداتها شعوب الأطراف المعنية. ذلك النكران والجحود لا ينفي دور الرئيس الأميركي في دفع العلاقات التقليدية بين واشنطن والعواصم الثلاث (الرياض والدوحة وأبوظبي) من منصّات التحالف السياسي والعسكري إلى آفاق الشراكة الاقتصادية. هذه هي القيمة المضافة في الجولة المليارية في بورصة السياسة الخارجية. هي قيمة تكتسب جاذبيتها، ثم تشكّل، حتماً، في ضوء عائداتها، نموذجها في أروقة العلاقات الدولية.

نقل الرئيس الأميركي بجولته الخليجية السياسات الخارجية بين الدول من التحالفات السياسية إلى الشراكات الاقتصادية

***

أحد أبرز الخلاصات المستفادة من هذه النقلة النوعية في السياسات الخارجية يتشكّل في انفتاح شهية قيادات الدول على تطوير مستويات حيوات شعوبها. يتولّد هذا النهم في البلدان المفعمة بالاستقرار، الإمكانات، القدرات البشرية، بالإضافة إلى وعي تلك القيادات بحتمية مواكبة العصر، فمسابقته على مضمار المستقبل. على هذا المضمار، لا وجود لتلك الدول الموبؤة بالتفتت، التمزّق، الحروب والحرائق، حيث الإمكانات مهملةٌ، منهوبة، والقدرات مهدرةٌ معطّلة. هناك حيث شهوة الاحتكار تستعر، فينسدّ الأفق أمام الطموحات الوطنية. الوطن العربي قلب العالم جغرافياً، حضارياً، اقتصادياً واستراتيجياً. دول الخليج هي المنطقة المبرّأة فيه من تلك العاهات المعطّلة للتقدم والازدهار، بل هي المهيئة للشراكات الرابحة.

***

بينما تنشغل الأنظمة القابضة وقياداتها الحكومية بالاحتكار والقمع، تطل علينا على نحو مباغت من على شرفة التاريخ المعاصر دوماً قيادات من الغرب تصنع مستقبلاً مغايراً. هكذا برز رونالد ريغان (وما كان سياسياً لامعاً ولا نجماً سينمائياً مميزاً)، في ما بات يُعرف في أدبيات الاستراتيجية الدولية بالريغانية. كما أطلت مارغريت تاتشر (والخوف عليها أول امرأة تترأس حكومة أوروبية)، في إطار "المرأة الحديدية"، واضعة نهجاً سياسياً عُرف كذلك بالتاتشرية. ثم ظهر جورج بوش الثاني فاتحاً عهد "المحافظين الجدد". هو مصطلح انتشر واسعاً في الأدبيات السياسية. بالطبع، لن تتوقف الليبرالية الرأسمالية عن الإنتاح السياسي. بهذا الفهم، نقارب صفقات دونالد ترامب موسومةً بـ"الشراكة الاقتصادية"، ربما هي فصل مما أُطلق عليه "الترامبية"، حينما أطلق الرجل عنان الاحتجاجات الشعبوية عقب هزيمته في الانتخابات قبل الفائتة على طريقة زعامات العالم الثالث.

ربما لم يهز ترامب شجرة الواقع السياسي في المنطقة الملتهبة بالنار والدمار، لكن حصاد جولته الثلاثية يساقط جدلاً لن ينفد قريباً

***

بالفهم نفسه، نستوعب التغييرات الفجائية على طاولات الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والعسكرية. في مناخ الرعب وسباقات الهيمنة والتسلح والردع، ظلت الحكمة الأكثر نفاذاً مبنيةً على الترسانة الحربية. لكن ثورة التكنولوجيا قطعت مسافات في رسم مستقبلٍ حديث، لا يزال يتشكّل بين الواقع والخيال. وقد أرعب الحكماء التقليديون الساسة بهدف تفادي حرب كونية ثالثة، بحجّة أنها الفانية. لذلك لا بد من تفاديها. في زعمهم أن أي حرب بعدها قوام أسلحتها الحجارة. لكن سباق التسلح عبر ثورة التكنولوجيا يفيد بأن الحرب الثالثة وقودها الاقتصاد والتجارة، وأسلحتها الضرائب ومعدّلات الإنتاج وموازين الدخول القومية. أما الحرب الرابعة، فجنودها رقائق الذكاء الاصطناعي وروبوتاته.

***

فتح الآفاق إبّان الجولة الخليجية أمام سورية للنهوض من كبوتها العاثرة طرح سؤالاً في ما لو مُنح السودان فرصة مشابهة. الفارق بين الحالتين محاولات السوريين مغادرة حماقات الاقتتال عبر استشراف سلطة راشدة، لكن المسكونين بشهورة السلطة والثروة في السودان يتوغلون في حماقات التآمر على الوطن والتاريخ أمام عيون البؤس الشعبي العام باسم استرداد الديمقراطية والكرامة الوطنية... بعيداً عن المقارنة بين الشعبين، لا شك في أن خيرات الأرض وفرص الاستثمار أكثر وفرة وإغراءً في السودان مما هي عليه في سورية. لكن فرسان الهدر وأصحاب العقول الضيقة في السودان غير معنيين باستيعاب دروس الماضي والحاضر، فيمارسون كل صباح تدمير البنى التحتية على شحّها، هشاستها وفقرها. أكثر من ذلك، إنهم يحرّضون الشعب باسم السيادة الوطنية على مشاركتهم ممارسة عملية انتحار جماعي بطيئة، مؤلمة وفق طقوس الهاراكيري اليابانية.

Read Entire Article