القطاع الصحي في العراق.. مستشفيات حكومية بلا دواء وعيادات خاصة لا ترحم الفقراء

1 day ago 5
ARTICLE AD BOX

 خاص/ المدى

في أحد مستشفيات العاصمة، جلس مريضٌ على كرسي بلاستيكي مكسور، يتلقى مغذيًا عبر أنبوب عالق في جدار متآكل، بينما الطبيب المناوب منشغلٌ بمتابعة هاتفه المحمول، ليس هذا مشهدًا من فيلم واقعي عن الحروب أو الأوبئة، بل صورة مألوفة من قلب النظام الصحي العراقي، حيث تتحول المستشفيات الحكومية يومًا بعد يوم إلى أماكن لا تُشبه المستشفيات، بقدر ما تُشبه محطات انتظار مؤلمة للقدر.

هذا المشهد، الذي قد يثير صدمة للوهلة الأولى، يعكس مأساة يومية يعيشها ملايين العراقيين في رحلة بحثهم عن علاجٍ كريم، فبين تدهور البنى التحتية للمؤسسات الصحية الحكومية، ونقص الكوادر الطبية، وانعدام الأدوية، يفرّ المواطن مجبرًا نحو القطاع الصحي الخاص، الذي ينمو بسرعة، لكنه لا يرحم من لا يملك المال.

مستشفيات حكومية شبه مهجورة
في جولة قصيرة داخل مستشفى اليرموك التعليمي في العاصمة بغداد، يمكن بسهولة ملاحظة مدى الإهمال الذي تعانيه المستشفيات العامة، الطوابير الطويلة من المرضى أمام صالات الطوارئ، الغرف المتهالكة، المعدات الطبية القديمة، والروائح النفاذة التي تنبعث من الممرات الضيقة، كلها مؤشرات على عمق الأزمة.
تقول أم حسين لـ(المدى)، وهي امرأة ستينية جاءت مع حفيدها الذي يعاني من التهاب حاد في الصدر: "أجبرونا على شراء الأدوية من الخارج، لا يوجد شيء في المستشفى، حتى الأوكسجين ليس متوفرًا دائمًا، والله لو لم يكن وضعي المادي صعبًا لما وطأت قدمي هنا".

نقص في الكوادر الطبية والمستلزمات
وإلى جانب تدهور البنى التحتية، تعاني المستشفيات الحكومية من نقص حاد في الكوادر الطبية والملاكات التمريضية، خاصة في المناطق النائية، وتشير تقارير وزارة الصحة إلى وجود تفاوت كبير في توزيع الأطباء بين العاصمة والمحافظات، مع تركز أغلبهم في بغداد والمحافظات الوسطى، وغياب شبه تام في المناطق الريفية.
ويؤكد أحد الأطباء رافضا ذكر اسمه، الذي يعمل في مستشفى حكومي في محافظة ذي قار، أن "الضغط الهائل على الكوادر القليلة يدفع الكثير من الأطباء إلى الهروب نحو القطاع الخاص، حيث الرواتب أعلى والعمل أقل مشقة، رغم أنه تجاري في طبيعته".

القطاع الخاص: البديل المكلِف
وفي ظل هذا الواقع، يجد المواطن العراقي نفسه مضطرًا للتوجه نحو المستشفيات الأهلية التي تشهد نموًا لافتًا خلال السنوات الأخيرة، إذ تشير إحصائيات غير رسمية إلى تضاعف عدد هذه المستشفيات ثلاث مرات خلال العقد الأخير، خاصة في بغداد وأربيل والبصرة.
لكن هذه المستشفيات، على الرغم من تجهيزاتها الحديثة ونظافتها النسبية، لا تفتح أبوابها إلا لمن يستطيع الدفع، حيث تبدأ أسعار الكشف الطبي من 50 ألف دينار عراقي في بعض العيادات، وتصل عمليات بسيطة إلى أكثر من مليوني دينار.
تقول سارة، موظفة حكومية من البصرة: "أنفقتُ خلال شهرين أكثر من راتبي على علاج والدي في مستشفى خاص، ولم نحصل على نتائج مختلفة عما كنا نتوقعه في المستشفى الحكومي".

ممارسات تجارية مثيرة للقلق
وفي ظل غياب رقابة حقيقية من الجهات الصحية، تتصاعد شكاوى المواطنين من ممارسات بعض الأطباء في القطاع الخاص، ممن يستغلون حاجة المرضى لتحقيق أرباح على حساب مهنيتهم.
ويقول المواطن علي الكعبي، من محافظة النجف، إنه ذهب إلى طبيب معروف بعد تشخيصه بحصى في الكلى: “طلب مني إجراء عملية مكلفة جدًا، وعندما راجعت طبيبًا آخر قال إن حالتي لا تستدعي سوى علاج بسيط وأدوية مدرة للبول، هؤلاء يتاجرون بأوجاعنا”.
وفي هذا السياق، يشير مراقبون إلى أن تزايد افتتاح العيادات الخاصة داخل منازل الأطباء أو في أماكن غير مرخصة، يعكس انفلاتًا في السيطرة التنظيمية ويزيد من مخاطر الأخطاء الطبية والتلاعب بالفواتير.
المتحدث باسم وزارة الصحة، سيف البدر، نفى لـ(المدى) صحة هذه الاتهامات، واعتبرها تصريحات غير مهنية ومتحيزة، وعند مخاطبته بطلب توضيح رسمي بشأن هذه المسائل، لم نتلقَّ أي رد حتى لحظة إعداد هذا التقرير.

غياب التخطيط وفساد الإدارات
يرى مختصون بالمجال الطبي أن الأزمة الراهنة في قطاع الصحة تعود إلى غياب رؤية ستراتيجية وطنية واضحة للنهوض بهذا القطاع، فضلاً عن تفشي مظاهر الفساد داخل إدارات المستشفيات ودوائر الصحة، الأمر الذي تسبب في إهدار واسع للموارد والموازنات المخصصة.
وفي هذا الإطار يقول الباحث في الشأن الصحي، نبيل العبيدي، إن “أغلب الأموال التي تُرصد لتأهيل المستشفيات أو شراء الأجهزة الطبية، تُهدر في صفقات وهمية أو مشاريع غير مكتملة، لدينا نظام صحي متهالك لأنه لا توجد إرادة حقيقية للإصلاح”.

دعوات للإصلاح والتدخل الدولي
أمام هذا الواقع، تتعالى الأصوات المطالبة بإصلاح جذري للقطاع الصحي، يبدأ من مكافحة الفساد وتحسين رواتب الكوادر الطبية، ويمر عبر تحديث البنية التحتية وتوفير الأدوية والمستلزمات، ولا ينتهي إلا بإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة في هذا المجال الحيوي.
كما دعت منظمات مدنية إلى تدخل المؤسسات الدولية لمراقبة آليات صرف المساعدات والمنح المخصصة للقطاع الصحي في العراق، لضمان توجيهها بشكل فعلي نحو تحسين الخدمات، لا نحو جيوب الفاسدين.
وبينما يُفترض أن تكون الصحة حقًا مكفولًا لكل مواطن، فإن الواقع يقول إن المرض في البلاد قد يتحول إلى طريق للفقر أو الهلاك، ما لم تتخذ خطوات حقيقية لإنقاذ ما تبقى من هذا القطاع المنهار.

The post القطاع الصحي في العراق.. مستشفيات حكومية بلا دواء وعيادات خاصة لا ترحم الفقراء appeared first on جريدة المدى.

Read Entire Article