الصراع الطبقي.. هل يعود؟

6 hours ago 2
ARTICLE AD BOX

أكد صراع الطبقات وجوده ظاهرةً تاريخية، لم يختفِ منذ ظهور المجتمعات، ورافقها منذ البداية. ففي العصور الزراعية القديمة، كان الصراع بين الملوك والكهنة والنبلاء من جهة، والفلاحين والعبيد من جهة أخرى. في العصور الوسطى الأوروبية، ساد النظام الإقطاعي، حيث احتكر النبلاء الأرض والسلطة معاً، بينما كان الفلاحون بلا أرض ولا سلطة. أدت المواجهة بينهما إلى قيام الثورة الفرنسية. جاءت بعدها الطبقة العاملة التي أفرزتها الثورة الصناعية، مقابل الطبقة البرجوازية الصناعية. وظهر مفهوم البروليتاريا الذي اعتبر صراع الطبقات جوهر التاريخ البشري، وأسّست الماركسية لفكرة أن الصراع بين من يملكون وسائل الإنتاج ومن لا يملكونها هو أساس التغيير الاجتماعي.

تجسّد صراع الطبقات في الثورات الكبرى، مثل الثورة الروسية والثورة الصينية، التي حاولت إلغاء الطبقات الاجتماعية. لكن التجربة أكدت عودة الطبقات عقب زوالها بعد ما يزيد على سبعين عاماً، وها هي تسرح وتمرح في روسيا والصين.

السؤال: هل ما يزال صراع الطبقات حيّاً، أم أن العالم الحديث، بمنظومته الاقتصادية المتشابكة، قد تجاوزه؟ في الحقيقة، هناك مؤشرات متزايدة تدل على أن صراع الطبقات لم ينتهِ، بل يعاود الظهور بشكل مختلف وربما أشد تعقيداً. مع أنه في العقود الأخيرة، ساد اعتقاد بأن العولمة والاقتصاد الليبرالي، والتقنيات الجديدة قد قلّصت الفوارق الطبقية. فقد لوحظ وبوضوح توسع الطبقة المتوسطة، وارتفاع مستويات المعيشة في بلدان عديدة، ما رجّح الظن بأن البرجوازية مقابل البروليتاريا قد فقد معناه. غير أن الأزمات المتلاحقة، وموجات التضخم العالمية كشفت هشاشة هذا التصور. طالما أن نسبة ضئيلة من سكان العالم، تمثّل أقل من 1%، تمتلك الجزء الأكبر من الثروات العالمية، بينما يعاني المليارات لتأمين احتياجاتهم الأساسية. هذا التفاوت صار أكثر حدّة ليس في الدول النامية وحسب، بل حتى في الاقتصادات المتقدمة.

لم يختفِ صراع الطبقات، بل تغيّر في شكله وأدواته

كما لم تعد هذه الفجوة تقتصر على الأثرياء مقابل الفقراء، بل طاولت الطبقة المتوسطة نفسها، التي باتت تشعر بالخوف من الانحدار إلى الفقر، أو على الأقل فقدان نمط الحياة الذي أصبح حقاً مكتسباً، لكنه غدا وهمياً بالنظر إلى ارتفاع أسعار العقارات بشكل جنوني، وأصبحت تكلفة التعليم الجامعي عبئاً كبيراً، وخصخصة الخدمات الصحية. كثيرون اليوم من أبناء هذه الطبقة يعملون أكثر ليحصلوا على أقل، في وقت تُراكم فيه فئة المليارديرات ثروات طائلة حتى خلال الأزمات.

ما يجعل صراع الطبقات اليوم وارِداً، لكن ليس بشكله القديم ولا بأساليبه العنيفة، بات يظهر من خلال الاحتجاجات، والمطالبات بفرض ضرائب عادلة على الثروات، وانتشار أفكار إعادة توزيع الدخل، وانتقال ساحة الصراع إلى الفضاء الرقمي، حيث تُستخدم المنصات الاجتماعية كمنابر تكشف عن الجشع الرأسمالي، وانتقاد أساليب نمو الثروات بأرقام خيالية، تحت تأثير دور التكنولوجيا في ثراء أصحاب هذه الشركات العملاقة بسرعة مذهلة، وفقدان الطبقات العاملة والوسطى وظائفها لصالح الأتمتة والذكاء الاصطناعي، وظهور ما يُسمى بـ"الطبقة الرقمية"، فئة صغيرة تتحكم في أدوات إنتاج المستقبل والسيطرة عليه، بينما هناك من يفقدون الحاضر.

ما بات شائعاً، أنه من فكرة بسيطة ومبلغ بسيط يمكن اقتناص الفرص وتحقيق ملايين الدولارات، وأن الساحة مفتوحة للجميع ليصبح أي إنسان مليونيراً أو مليارديراً. تسهم الصحافة العالمية وصحافة المنوعات في ترويج هذه الفكرة، لترسيخ مشروعية هذه الفوارق، على أنها من صنع البشر الذين لا يستثمرون عقولهم، وترويج قناعة بحقيقة وجود مجموعة من المليارديرات تواجه مليارات البشر، فلماذا إذًا الطبقات ليحدث صراع بينها؟ لقد اختفت.

لم يختفِ صراع الطبقات، بل تغيّر في شكله وأدواته، وهو اليوم أكثر حدة بسبب تفاقم الفوارق. وليس من الحتمي أن يؤدي هذا الصراع إلى ثورة أو فوضى. بإمكان الدول أن تتدخل بسياسات ضريبية عادلة، واستثمارات في التعليم والرعاية الصحية، ودعم للطبقة المتوسطة، للحد من هذه الهوة. لكن ذلك يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وضغطاً اجتماعياً منظماً، وفهماً جديداً لمعنى العدالة الاقتصادية، وإلا فإننا على أعتاب جولة جديدة من الصراع، قد تكون أكثر شمولاً وتعبيراً عن غضب تراكم.


* روائي من سورية

Read Entire Article