الزبداني... غنيمة حزب الله عادت إلى أهلها

5 hours ago 2
ARTICLE AD BOX

الزبداني بلدة سورية مرّت عليها الحرب بقسوة. آثار القتال الضاري والحصار المديد، لا تزال ماثلة في كلّ مكان، ولم تنته بعد فصولُ المعاناة والتهجير. كان الهدف إحداث تغيير ديمغرافي على أساس طائفي، لما تتمتع به المنطقة من مواصفات جغرافية مهمّة، وأرض خصبة وفيرة المياه، قريبة من حاضنة حزب الله في البقاع.

بدأت حرب السيطرة على الزبداني بمحاولات اقتحام حزب الله، حينما تدخل عسكرياً في سورية عام 2012. وضع مخطط العملية، القائد الراحل للواء القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني. وفي التفاصيل شمل الهجوم احتلال كامل منطقة وادي بردى، وذلك لأسباب عدّة، أولها ربط دمشق وجوارها بالبقاع، حيث مراكز حزب الله العسكرية، والثاني تأمين خاصرة دمشق الجنوبية من هجمات الفصائل العسكرية السورية المسلحة، وثالثاً السيطرة على مصادر المياه والأراضي الخصبة، ضمن خطة تغيير ديمغرافي على أسس طائفية، يحل فيها محل السكان الأصليين، شيعة من إيران ولبنان، والعراق، وباكستان، وأفغانستان.

في تلك الفترة خسر النظام المدن والبلدات المحيطة بدمشق كافة، وكان رأي سليماني أن استرجاع الزبداني، سوف يعيد تمكين النظام، ويقضي على الحراك الذي بدأ في قرى المنطقة، ويضع حداً للانشقاقات عن الجيش الرسمي في بلدتَي سرغايا ومضايا المهمتَين لوقوعهما قريباً من الحدود مع لبنان، وكونها تتمتعان بطبيعة جبلية وعرة.

معارك رئيسية في الزبداني

شهدت الزبداني عدة معارك رئيسية في أعوام 2012 و2015، و2016، وتمركز حزب الله في البداية في مدينة الطلائع القريبة منها، وكانت تسانده قطعات عسكرية من النظام والحزب القومي السوري، والحرس الثوري الإيراني. وقد صمدت المنطقة أعواماً رغم أنها ساقطة عسكرياً بحكم كونها واقعة ضمن منخفض سهلي، ما ساعد حزب الله على قصفها من المناطق الجبلية اللبنانية المتاخمة التي تبعد حوالى عشرة كيلومترات.


أبو أحمد: اتفاق المدن الأربع كان تهجيراً متعمداً وقسرياً ويهدف إلى تغيير التركيبة السكانية في المنطقة


يستعيد أبو حسام، وهو من أهالي البلدة الذين عادوا من إدلب، ذكريات معارك قاسية لمنع تقدم قوات حزب الله حتى اللحظة الأخيرة. وفقد المدافعون عنها أغلب أراضيها، وانحصروا في مساحة كيلومتر مربع واحد، حتى جرى التوصل لاتفاق سمّي باتفاق "الفوعة ـ الزبداني"، بعد مفاوضات في تركيا بين الحرس الثوري الإيراني و"حركة أحرار الشام"، وتوقّفت على إثره المعارك. وكان يفترض بالاتفاق أن ينقل كل سكان الزبداني نحو إدلب، وينقل بضعة آلاف من سكان كفريا والفوعة (ريف إدلب) إلى مناطق النظام في دمشق وريفها، إلّا أن التدخل الروسي في سبتمبر/أيلول 2015 أوقف تطبيق هذا الجزء من الاتفاق، حتى جرى التوصل إلى اتفاق المدن الأربع: مضايا والزبداني في مقابل كفريا والفوعة، الذي وُقّع في إبريل/نيسان 2017، بين إيران والمليشيات المرتبطة بها من جهة، وعدد من الفصائل المعارضة الإسلامية المسلّحة (أبرزها جبهة فتح الشام، وحركة أحرار الشام) من جهة أخرى، بوساطة قطرية.

بدورهم، يتحدث عائدون إلى بلدة مضايا، القريبة من الزبداني، عن حصار خانق، بوجود عشرات الآلاف، أغلبهم من المسنين والأطفال والنساء، بينما دافع عنها قرابة 200 مقاتل من قوات "الجيش السوري الحر" و"أحرار الشام". وما يميزها أنها حظيت بهدوء بعد ذلك، واجتذبت النازحين من كل المنطقة المحيطة بها، نظراً لوجود اتفاق سابق مع النظام وقوات حزب الله بعدم القيام بعمليات عسكرية متبادلة، ونزح إليها في بداية معارك الزبداني في العام 2015 ما يقارب 18 ألفاً.

يقول أبو أحمد، أحد قادة "أحرار الشام" الذين عادوا إلى المنطقة بعد سقوط النظام، إنه جرى تنفيذ اتفاق المدن الأربع في 14 إبريل 2017، وخَرج 3800 شخص، بينهم مقاتلون من المعارضة المسلحة، من منطقة الزبداني إلى مناطق خاضعة للمعارضة المسلحة على الحدود مع تركيا. ويضيف أن العملية كانت تهجيراً متعمداً وقسرياً يهدف إلى تغيير التركيبة السكانية، أما من فضّل البقاء في الزبداني ومضايا فحاله لم يكن أفضل، في ظل سوء الأوضاع الأمنية، وانتشار تجارة المخدرات تحت سيطرة حزب الله والفرقة الرابعة، وقلّة فرص العمل، واستيلاء النظام على أملاك الأهالي، لا سيّما المعتقلين والملاحقين غيابياً بعد توجيه تهم الإرهاب لهم. وحتّى الآن لم يعد جميع من تهجروا، بانتظار توافر الشروط المناسبة لإعادة إعمار البيوت المهدمة.

يقول أبو شادي الذي استقبلنا في منزله في بلدة سرغايا، بعد أن قمنا بجولة واسعة في المنطقة، إنه حينما خرج الشباب من الزبداني كانت تنقصهم الذخيرة، لكن المشكلة الفعلية لم تكن هنا، بل كانت تكمن في نقص الطعام، و"عندما وصلوا متسلّلين إلى منطقتنا على بُعد كيلومترات عدّة كانوا على درجة عالية من الهزال، وبعضهم فتكت به الأمراض، لأنهم أمضوا الأيام الأخيرة وهم يقتاتون على أوراق الشجر، ولم يسلّموا سلاحهم، وانسحبوا من هناك بموجب اتفاق المدن الأربع".


لا تزال آثار الدمار الكبير واضحة في المنطقة، ولم يتسنَّ لأهل البيوت المدمرة رفع الركام


لا تزال آثار الدمار الكبير واضحة في المنطقة، ولم يتسنَّ لأهل البيوت المدمرة الذين عادوا بعد سقوط النظام أن يرفعوا الركام، والبعض الآخر لم يرجع بعد. مسجد ضرار بن الأزور الواقع على الطريق العام شاهدٌ على المعارك التي دارت هناك، المئذنة التي رفع فوقها حزب الله راياته الصفراء تحتفظ بآثار الرصاص والقذائف الصاروخية التي أصابتها، وقال بعض الأهالي إن الحزب حوّل بعض المساجد إلى مزارات شيعية، وهي المحطة وسط المدينة، وقلعة الزهراء في حي قلعة الزهراء غربي المدينة، والغفران على طريق الزبداني ـ سرغايا، ولم يُسمع الأذان من مسجد الغفران، منذ أن رمّمه الحزب ومنع على المدنيين دخوله، رغم أنه يقع خارج المربع الأمني الذي أقامه في المدينة. وكان الحزب يقوم بجولات في المنطقة لأهالي قتلاه، ويقدم لهم إغراءات للانتقال من لبنان والإقامة في بيوت المهجّرين، واستثمار الأراضي، ووعدهم بنسبة من عائدات الإعمار.

مرارة أعوام التهجير

الأهالي الذين عادوا من إدلب بعد سقوط النظام، يتحدثون بمرارة عن أعوام التهجير، كانت صعبة كالاقتلاع من الجذور. البعض من دون مأوى، ولا يمتلك أي مقومات للحياة، ومن الصعب للغاية استئجار منزل وجلب الأغراض له، لأنهم لم يكونوا يمتلكون أي أموال أو عمل. الفقر هو أصعب ما واجه المهجّرين، كما تدهورت أوضاع المصابين بشدّة، خاصّة الذين كانوا يعانون من بتر في الأطراف، لأنهم كانوا بحاجة إلى عناية دائمة، وهو ما كان يجري في المشافي التركية ويحتاج إلى إذن للخروج، بالإضافة إلى عدم امتلاك بعض الأسر الوثائق المطلوبة لتسجيل الطلاب بالمدارس، التي تثبت ما اجتازوه من صفوف. وفي العام الأول من التهجير أسّس أهالي الزبداني الذين تجمّع أغلبهم في مدينة إدلب وبلدة معرة مصرين، مكتباً خاصاً بهم للنفوس يسجل حالات الولادات والزواج والطلاق، لكنّهم في ما بعد عملوا تحت سلطة الإدارة الموجودة في إدلب.

هناك منازل مدمرة بالكامل تقع على الطريق العام بين الزبداني وبلودان وسرغايا. ومن بين إغراءات احتلال هذه المنطقة وتمليكها لأنصار الحزب أن هذه البلدات تقع على مسافة 80 كيلومتراً عن دمشق، وقريبة من الحدود اللبنانية، حيث تقع بلدة معربون، التي يفصلها عن سرغايا نهر صغير. وأهل سرغايا يتحدثون بلهجة أهل بعلبك اللبنانية، ويتشاركون معهم في نمط الاقتصاد الزراعي، وعادات أهالي المناطق الحدودية المتجاورة، وتتوزع القرى في السهول، وتحيط بها سلاسل جبلية عالية، إذ يصل الارتفاع في ذرى جبل الشيخ إلى 2880 كيلومتراً، وهي غير بعيدة، بل متصلة مع جبال القلمون التي تلتف حول خاصرة دمشق، وتمتد حتى حدود محافظة حمص.
الأراضي هناك خصبة. ونوعية التربة تسمح بزراعات عديدة ومتنوعة تلائم الطقس البارد شتاء والمعتدل صيفاً. وهناك قرى كسرغايا يُحرم أهلها بيع الأرض لأحد من خارجها، وذلك من أجل حفظ الملكية وعدم تسرّبها، أو اختلاطها بقادمين من خارجها. سهول غنية شاسعة، مزروعة بالأشجار المثمرة، وتنتشر بكثافة على جانبَي الطريق، وتمتد حتى السفوح القريبة من الجبال مزارع الجوز واللوز والكرز الذي يحتاج إلى طقس بارد. ولحسن حظ الأهالي تقلّ السناجب في المنطقة، وإلّا كانت ستقضي على ثمار الجوز. وتمتاز المنطقة بالنوعيات الجيدة من الكرز واللوز، وتنتشر فيها شتى أنواع الطيور خاصة الحجل. 

على جانبَي الطريق العام تقف صفوف كثيرة من السيارات، ينزل منها رجال ونساء يحملون غالونات بلاستيكية بيضاء ذات سعة كبيرة تصل إلى 20 لتراً. يظن الذي لا يعرف المنطقة أن الجمع يقصد محطات الوقود لشراء المازوت الذي كان نادراً حتى سقوط النظام، وصار متوافراً بكثرة وبأسعار مقبولة، بعد أن كان يباع وفق البطاقة الذكية، بالإضافة إلى المواد الأولية، ومنها الخبز. يقف الناس بالدور من أجل تعبئة مياه معدنية من العيون المنتشرة في المنطقة. وقد قام بعض الأهالي بتأهيلها ببناء مصاطب وصنابير للتعبئة. لا بدّ أن يرجع كل عائد إلى دمشق بكمية من المياه والكرز والعسل والفواكه الطازجة، التي يباع بعضها بأسعار مقبولة وبعضها تفوق أسعار تركيا، البلد المجاور الشبيه بمناخه وفواكهه.

الماء سبب رئيس للدفاع عن الأرض

الماء أحد أسباب تمسك الأهالي بالأرض والدفاع عنها. قدموا الآلاف من الضحايا، خلال الثورة، من أجل حماية منطقتهم. هناك قرى لم يتمكن حزب الله من دخولها بسبب صعوبة التضاريس وخوفه من أن يخسر أعداداً كبيرة. على حدود الزبداني تقع بلدة بلودان، وهي منطقة مثالية للتصييف، بفضل مناخها المعتدل وهوائها النظيف الخالي من التلوث وهدوئها، وتوافر جبال تصلح لممارسة رياضة المشي والتسلق. وهنا على عكس سرغايا، يتملك عدد كبير من عرب الخليج قصوراً وبيوتاً صيفية، بعضها ينفرد ببنائه على ذرى الجبال، وهناك استراحة للرئيس المخلوع بشار الأسد تحولت إلى مقر أمني للقوات الموجودة في المنطقة. ويقول صاحب مكتب عقاري إن بعض عرب الخليج بدأوا بالعودة إلى بيوتهم للمرة الأولى منذ أعوام، وهم يرمّمون بيوتهم لقضاء فصل الصيف، بعد أن احتل حزب الله بعضها، وحولها لمقرات عسكرية.
هناك مساحات شاسعة من الأراضي غير الزراعية، الأمر الذي يرشح هذه المناطق لبناء مدن ذكية تستفيد من الطقس المعتدل والهواء النظيف وتوافر المياه والفواكه والخضار، ما يخفف عن العاصمة الازدحام السكاني الذي تعيشه، ويحد من غلاء السكن. هنا يجدر التوقف عند نقطة مهمة وهي أن نظام عائلة الأسد، بدلاً من أن يتوسع عمرانياً باتجاه هذه المناطق، قام باجتثاث الجزء الأكبر من منطقة الغوطة التي كانت تشكل رئة دمشق.

لا تزال الإمكانية متوافرة لتخفيف العبء عن العاصمة، لا سيّما أن هناك خط سكة حديد، يربط الزبداني وبلودان بدمشق، ويصل حتى بيروت. وحتى لو لم تجرِ إعادة تأهيل هذه السكة، فإن شبكة الطرق الموجودة تسمح بحركة سريعة للحافلات والسيارات، بعد أن اختفت حواجز "الفرقة الرابعة" التي كان يديرها ماهر الأسد، من حدود دمشق إلى الحدود مع لبنان، التي كانت تتولى التهريب، وتجبي الضرائب من الداخلين إلى العاصمة، سواء كانوا قادمين من لبنان، أو من داخل سورية. موسم الأشجار المثمرة ضعيف هذا العام، لكن الفرح بسقوط النظام عوّض الأهالي، الذين بدأوا رحلة العودة من التهجير. ورشات رفع الركام تواصل عملها، من أجل إعادة البناء قبل هطول الأمطار والثلوج.

Read Entire Article