ARTICLE AD BOX
أطلقت إسرائيل فجر الجمعة، 13 يونيو/ حزيران 2025، عمليةً عسكريةً كبيرةً ومنسّقة ضد إيران تحت اسم "الأسد الناهض" شاركت فيها أكثر من 200 طائرة حربية، بما في ذلك مقاتلات "إف- 35" نفذت خلالها خمس موجاتٍ من الغارات الجوية على نحو مائة هدف داخل البلاد. وتبيّن أنها بداية حربٍ شاملةٍ تتجاوز هدفها المعلن المتمثل في ضرب القوة النووية الإيرانية، إلى محاولة ضرب الاقتصاد وإسقاط النظام الإيراني. وقد أسفر الهجوم الذي برز فيه التفوق الاستخباري والتكنولوجي الإسرائيلي (والأميركي بطبيعة الحال) خلال اليوم الأول عن اغتيال نحو 20 من كبار ضباط الحرس الثوري والقوات المسلحة الإيرانية، بمن فيهم قائد الحرس الثوري حسين سلامي، ورئيس هيئة أركان الجيش محمد باقري، وتسعة علماء نوويين. كما استهدف الهجوم مواقع البرنامج النووي الإيراني في نطنز (أصفهان) وفوردو (قم) وبارشين (شرق طهران) وآراك (غرب وسط البلاد)، فضلاً عن مراكز تصنيع الصواريخ البالستية وقواعد إطلاقها، ومنشآت إنتاج الطائرات المسيّرة. وفي المقابل، ردّت إيران بإطلاق عملية "الوعد الصادق 3"، حيث أطلقت أكثر من 150 صاروخًا بالستيًا وأكثر من 100 طائرة مسيّرة في اتجاه إسرائيل تمكّن العديد منها من تجاوز المنظومات الدفاعية الإسرائيلية والأميركية، التي شاركت في محاولات صدّ الهجوم الإيراني، وأصابت مناطق مختلفة من إسرائيل، بما فيها حيفا وتل أبيب. وجاءت هذه المواجهة الإسرائيلية - الإيرانية عشية انتهاء مهلة ال60 يوماً التي حدّدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإبرام اتفاق حول برنامج إيران النووي، وبعد الإعلان عن جولةٍ جديدةٍ من المفاوضات كان مقرّراً عقدها بين واشنطن وطهران في سلطنة عُمان.
تحاول إسرائيل بتدمير البرنامج النووي الإيراني الاحتفاظ بوضعها الراهن القوة النووية الوحيدة في المنطقة
توقيت الهجوم الإسرائيلي
جعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، منذ عودته إلى الحكم عام 2009، تدمير البرنامج النووي الإيراني هدفاً رئيساً لكل الحكومات التي شكّلها، سواء من خلال عمليات أمنية تخريبية، أو عبر استهداف العلماء النوويين الإيرانيين بالاغتيال. وفي هذا السياق، عارض أيّ تسويةٍ سلميةٍ لملف إيران النووي، ووقف بقوة ضد اتفاق عام 2015 الذي أبرمته إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، والذي عُرف رسميّاً باسم "خطّة العمل الشاملة المشتركة"، وعمل على إجهاضه، وهو ما حصل عندما قرّر الرئيس ترامب الانسحاب منه في أيار/ مايو 2018 وأعاد فرض العقوبات الاقتصادية على إيران في إطار سياسةٍ عُرفت إعلاميّاً بسياسة "الضغوط القصوى" التي استهدفت دفعها إلى القبول باتفاق جديد أكثر تشدّداً في مراقبة نشاطاتها النووية. وفي العام نفسه، تمكّنت إسرائيل من سرقة أرشيف البرنامج النووي الإيراني، وعرضت أجزاء منه للعلن. ونجحت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 في اغتيال محسن فخري زاده، الذي تعدّه إيران بمنزلة "أب" لبرنامجها النووي. وعلى الرغم من استئناف المفاوضات بين واشنطن وطهران في عهد إدارة جو بايدن بهدف العودة إلى اتفاق عام 2015، لم تكلّل تلك الجهود بالنجاح، قبل أن تتوقف تماماً عقب عملية طوفان الأقصى التي نفّذتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وفي سياق التصعيد بين إسرائيل وإيران بعد "طوفان الأقصى"، شهد عام 2024 مواجهتَين جويتَين كبريَين بينهما؛ وقعت الأولى في نيسان/ أبريل بعد أن قصفت إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق وقتلت قادة الحرس الثوري في سورية ولبنان، وردّت إيران حينها بإطلاق نحو 200 صاروخ ومسيّرة في اتجاه إسرائيل. وجرت الثانية في تشرين الأول/ أكتوبر؛ ردّاً على اغتيال إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، واغتيال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في الضاحية الجنوبية لبيروت. وحاولت إسرائيل استغلال ردّ إيران في المواجهة الثانية لتوجيه ضربةٍ إلى برنامجها النووي، لكنّ الضغوط التي مارستها عليها إدارة بايدن، مخافة جرّها إلى حربٍ مع إيران، جعلت إسرائيل تكتفي بضرب الدفاعات الجوية الإيرانية، خصوصاً التي تحمي المنشآت النووية في أصفهان، وكذلك تدمير منشآت تصنيع الوقود الصلب للصواريخ البالستية. ومع وصول ترامب مرّة أخرى إلى السلطة مطلع عام 2025، ونجاح إسرائيل في إضعاف حلفاء إيران في المنطقة، صار توجيه ضربة إسرائيلية إلى البرنامج النووي الإيراني مسألة وقت، فقد اعتمدت إيران عقوداً طويلة، لا سيما بعد حرب تموز (2006) التي أثبت فيها حزب الله قدرته على التصدي للآلة العسكرية الإسرائيلية، على استراتيجية تُعرف بـ "الدفاع المتقدم"، تقوم على بناء القدرات العسكرية لحلفاء أو وكلاء إقليميين (في لبنان والعراق، ولاحقاً في سورية واليمن) واستخدامهم جزءاً من منظومة الردع لأيّ استهدافٍ إسرائيليٍّ لإيران أو لبرنامجها النووي. وشكّل حزب الله، خصوصاً، عائقاً كبيراً أمام أيّ هجوم إسرائيلي ضد إيران، إذ كان يمتلك ترسانة واسعة من الصواريخ المختلفة التي يصعب على إسرائيل صدّها، نظراً إلى القرب الجغرافي والوقت الذي يستغرقه وصولها من جنوب لبنان. لكنّ هذه الاستراتيجية انهارت تماماً بعد أن نجحت إسرائيل في تدمير القدرات العسكرية لحزب الله، واستهداف قياداته العسكرية والسياسية، وفرض اتفاق لوقف إطلاق النار على لبنان في إطار قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701، في نوفمبر 2024، وبعد سقوط النظام السوري وخروج إيران وحلفائها من سورية، في ديسمبر/ كانون الأول 2024؛ فبات الطريق إلى أن تهاجم إسرائيل إيران مفتوحاً. وكان ذلك مخططاً القيام به، وفقاً لنتنياهو، قبل إبريل/ نيسان 2025، لكنّ إصرار ترامب على فسحةٍ تفاوضيةٍ تفرض فيها الولايات المتحدة وقف التخصيب على إيران أجّل الهجوم 60 يوماً.
يبدو أنّ اتفاقاً حصل يقضي بأن يدعم ترامب خطط نتنياهو لمهاجمة إيران في حال فشل التوصل إلى اتفاق معها خلال مهلة ال60 يوماً
أهداف إسرائيل
أعلنت إسرائيل أنها تهدف من هذه العملية العسكرية إلى تفكيك (تدمير) برنامج إيران النووي والقضاء على فرصها في الحصول على سلاح نووي. وهي تحاول بذلك الاحتفاظ بوضعها الراهن باعتبارها القوة النووية الوحيدة في المنطقة، في إطار سياسةٍ مكّنتها من تدمير البرنامج النووي العراقي (1981)، وتفكيك البرنامج النووي الليبي (2003)، وضرب البرنامج النووي السوري (2007). لكن يبدو من طبيعة الأهداف التي استهدفتها إسرائيل في اليومين الأوّلين من العملية العسكرية أن حكومة نتنياهو تسعى، إضافة إلى إضعاف القدرات العسكرية الإيرانية، إلى إسقاط النظام في طهران، عبر إضعاف شرعيته وكسر هيبته داخليّاً، وهو هدفٌ صريحٌ ومعلنٌ دأب نتنياهو على تبنّيه، وسعى مراراً إلى إقناع واشنطن به، كما دعا صراحة، في خطابه الذي ألقاه بعد هجمات يوم الجمعة، الشعب الإيراني إلى الثورة على النظام. ويُعتقد أن استهداف إسرائيل البنية التحتية النفطية ومنشآت الطاقة في إيران يصبّ في هذا الاتجاه، من خلال إثارة التذمر في الداخل من سياسات النظام وتشديد الخناق على الاقتصاد الإيراني الذي يعاني أصلاً عقوباتٍ شديدةٍ فرضتها إدارة ترامب.
الموقف الأميركي
اتخذ ترامب في رئاسته الأولى (2017-2021) موقفاً متشدّداً من إيران، إذ إنه انسحب من الاتفاق النووي الذي أبرمه سلفه، على أمل إبرام اتفاق جديد يحمل اسمه، وتبنّى سياسة الضغوط القصوى ليدفعها إلى الموافقة على اتفاق جديد. وبعد عودته إلى السلطة، جدّد اهتمامه بعقد اتفاق مع إيران، وفي إبريل 2025، وجّه إنذاراً إليها، منحها فيه مهلة مدتها 60 يوماً للتوصّل إلى اتفاق جديد، وإلا ستواجه "عواقب مدمّرة"، بما في ذلك احتمال تنفيذ ضربات عسكرية أميركية أو إسرائيلية ضد منشآتها النووية. وجاءت المهلة عبر رسالة مباشرة وجّهها إلى المرشد الإيراني، علي خامنئي، حملها مسؤول إماراتي، وتضمّنت شروطًا صارمة تشمل من بين طلبات عدة تفكيك برنامجها النووي، ووقف تخصيب اليورانيوم، ووقف دعم الحوثيين في اليمن وتسليحهم. وفي المقابل، أبدى ترامب استعداده لرفع العقوبات الاقتصادية وإنهاء عزلة إيران الدولية. لكنّ خامنئي رفض الإنذار، وعدّه "خدعة" تهدف إلى فرض شروط أميركية على إيران، غير أنه وافق على إجراء مفاوضاتٍ غير مباشرة مع الولايات المتحدة، بدأت في إبريل 2025 في سلطنة عُمان، ثم تواصلت في روما، في خمس جولات، إلا أنها لم تسفر عن تقدّم ملموس؛ بسبب إصرار واشنطن على منع إيران من القيام بأيّ عمليات تخصيبٍ على أراضيها. وطلب ترامب من نتنياهو، الذي كان يستعد لتوجيه ضربة عسكرية على برنامج إيران النووي، إعطاء فرصة للدبلوماسية التي كان يقودها مبعوثه إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف. ويبدو أنّ اتفاقاً حصل بينهما في هذا الإطار يقضي بأن يدعم الأول خطط الثاني لمهاجمة إيران في حال فشل التوصل إلى اتفاقٍ معها خلال مهلة ال60 يوماً. ومع انتهاء المهلة في يونيو/ حزيران الحالي (2025) من دون التوصل إلى اتفاق، شنّت إسرائيل عمليتها العسكرية، التي أشاد بها ترامب ووصفها بأنها "ناجحة جدّاً"، متباهياً بالأسلحة الأميركية التي استُخدمت فيها، محذّراً إيران من أنّ "ما هو قادم سيكون أكثر تدميراً" إذا لم تعد إلى طاولة المفاوضات.
يستخدم ترامب العملية العسكرية الإسرائيلية أداةَ ضغطٍ على إيران لدفعها إلى العودة إلى طاولة المفاوضات
وبناءً عليه، يبدو من الواضح أن ترامب يستخدم العملية العسكرية الإسرائيلية أداةَ ضغطٍ على إيران لدفعها إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، والقبول بشروطه؛ فهو لا يريد إسقاط النظام فيها، بل يريد ضمّه إلى المعسكر الأميركي بعد التخلص من احتمال التسلح النووي. لكنه، في الوقت ذاته، يتحسّب من احتمال أن تورّطه إسرائيل في مواجهةٍ عسكريةٍ لا يريدها مع إيران، وخاصة أنها لن تكون قادرة وحدها على تدمير المنشآت النووية الإيرانية بالكامل باعتباره أحد أهم أهداف عمليتها العسكرية، ولا سيما تلك المدفونة عميقاً تحت الأرض في فوردو تحديداً. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة سمحت بهذه الحرب ودعمتها، إذ لم يكن خوضها ممكناً من دون هذا الدعم، فإنّ من الخطأ الاستنتاج أن ترامب يستخدم إسرائيل، فالأخيرة تستخدمه أيضاً، ونتنياهو يستغل الفرصة المتاحة لتوسيع نطاق الحرب بما يخدم تحقيق أهدافه، لا أهداف ترامب، ويصعّد من وتيرتها على نحوٍ يضطر الولايات المتحدة إلى الانضمام إليها، وهو ما لم ينجح في تحقيقه بعد.
خاتمة
شكّل الهجوم الإسرائيلي على إيران الحلقة الأخيرة في سلسلة مواجهات عسكرية بدأتها إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى بهدف تفكيك "محور المقاومة". وكان واضحاً أنّ إيران باتت مكشوفة تماماً بعد تدمير القدرات العسكرية لحزب الله وإسقاط النظام السوري وتصفية وجود الفصائل الموالية لها في سورية على الحدود، ومن ثم صار هجوم إسرائيل عليها هجوماً مباشراً مسألة وقت، وزاد احتماله مع عودة ترامب إلى الحكم. ومن غير الواضح ما ستسفر عنه المواجهة بين إيران وإسرائيل، ويتوقف كثير فيها على الموقف الأميركي، ومدى استعداد ترامب للتورّط فيها، خصوصاً إذا فشلت إسرائيل في تدمير البرنامج النووي الإيراني، أو ارتفعت أسعار النفط بشدّة في ضوء توجّهها إلى تدمير صناعة النفط والغاز في إيران لزيادة الضغوط عليها. ويمكن أن تصمد إيران بثمن مرتفع جدّاً (عسكري واقتصادي وبشري) إذا لم يحصل تدخّل أميركي مباشر. ولكن، من الواضح أنها لا تدفع الثمن وحدها.
