ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">الجندي الهارب في المسرحية المصرية المقتبسة (خدمة الفرقة)</p>
حين تكون الحرب دفاعاً عن الوجود والشرف والكرامة، فلا بديل للجندي عن خوضها، طوعاً لا كرهاً، أما من يهرب خوفاً من الموت أو العقاب، فلا شرف ولا كرامة له، وحينها يكون مكانه الطبيعي وسط الخنازير، فكلاهما يليق بالآخر.
قريباً من هذا المعنى تدور مسرحية "مكان مع الخنازير" للكاتب الجنوب أفريقي أثول فوغارد (11 يونيو 1932 - 8 مارس 2025) ذلك الكاتب المنحدر من أب أيرلندي الأصل، وأم زنجية، بحسب مترجم النص محمود أبو دومة، وكان من أكثر الرافضين لسياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والمناضلين ضدها، وهو ما تفصح عنه مواقفه وكتاباته.
ولعل من تابع مسيرة هذا الكاتب المناضل، يدرك أنه كان بالفعل، كما وصفوه "شعلة مضيئة في ظلام التمييز العنصري"، ولذلك انتصرت كتاباته دائماً للإنسان، في تطلعاته وأشواقه، وسعيه إلى التحرر والانعتاق من كل ما يكبله بالقيود، كما في مسرحياته، رباط الدم، وأغنية الوادي، وأطفالي لي أفريقيا لي، والزنزانة، والسيد هارولد، والأولاد، والناس يعيشون هناك، وغيرها، فضلاً عن روايته الشهيرة "تسوتسي" التي تحولت إلى فيلم سينمائي عام 2005، باللغة الزولوية، إنتاج المملكة المتحدة وجنوب أفريقيا، نال جائزة الأوسكار كأفضل فيلم بلغة أجنبية.
قدم نادي مسرح "الشاطبي" بالإسكندرية، عرض "الروث" المأخوذ عن مسرحية "مكان مع الخنازير" إعداد وإخراج محمد بسيوني، وشارك في المهرجان الختامي لـ"نوادي المسرح" في القاهرة، وحصل على المركز الثاني كأفضل عرض، كما حصل مخرجه على المركز نفسه، وبطله على جائزة أفضل ممثل.
قصة واقعية
استوحى أثول فوغارد مسرحيته من قصة واقعية بطلها جندي من الاتحاد السوفياتي السابق، هرب من الخدمة أثناء الحرب العالمية الثانية واختبأ في حظيرة للخنازير أربعة عقود. أدخل المعد بعض التعديلات على النص، وخصوصاً نهاياته، التي جاءت متعددة، إذ كانت هناك ثلاثة مشاهد، بدا اثنان منها حاسمين، وصالحين ليكونا نهاية للعرض. الأول عندما كان خارج الحظيرة متطلعاً إلى الشمس راغباً في الذهاب إلى المستقبل، بحسب تعبيره، والآخر عندما أطلق الخنازير من محبسها. ربما فعل المخرج ذلك رغبة في توسيع مساحة التأويل، وتعدد الإجابات على الأسئلة التي يطرحها العرض، وإن أحدث ذلك قدراً من التشوش لدى المتلقي.
لقد هرب بافيل إيفانوفتش (مصطفى كرم) من الحرب بحثاً عن الدفء في بيته، وحنيناً إلى الجوارب الصوفية التي صنعتها له أمه، كان يخطط أن يمضي يوماً واحداً ويعود مجدداً لساحة القتال، لكنه جبن عن العودة، لتمر الأعوام وهو مختبئ في حظيرة الخنازير، التي تربيها زوجته براسكوفيا (ندى حسن).
في كل عام ينوي بافيل الظهور أثناء الاحتفال بعيد النصر، وتسليم نفسه للقادة، لينال جزاءه، لكنه يتراجع، وهو في منفاه هذا لا يستنشق سوى الهواء الفاسد المشبع برائحة الخنازير، الفئران أكلت بزته العسكرية، وأهالي القرية يعتبرونه من الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم فداء للوطن، وزوجته تتسلم وسام التضحية من الدرجة الأولى، الذي منحه له قادته، في أحد احتفالات عيد النصر، وسط بكاء معارفه وترحمهم عليه وإشادتهم ببطولاته وشجاعته. كلها ضغوط تعمق لديه الإحساس بالخزي والعار، حتى أنه يخرج ذات يوم مع زوجته ليرى الشمس ويستنشق الهواء النقي، متنكراً في زي امرأة.
كلها علامات وإشارات تثقل على روحه، فلا يبقى أمامه سوى الجنون أو الانتحار، فإحساسه بالذنب، وفقاً لضغط عوامل داخلية وخارجية، يزداد، حد النزف الروحي.
في نهاية العرض يفاجئنا المخرج بأن بافيل في مشفى للأمراض العقلية، نعلم أنه أصيب بالجنون وقتل زوجته، وأن كل ما دار أمامنا كان رحلة في عقل هذا الجندي، وهي، في ظني، نهاية أضعفت كثيراً من الشحنة العاطفية التي منحنا العرض إياها.
لقد أطلق بافيل، في لحظة حاسمة، الخنازير من الحظيرة ومنحها حريتها وحقها في الاختيار، هي لحظة بدا فيها كما لو كان وصل إلى حالة من التطهر والاعتراف بجرمه، حتى لو لم يفصح عن ذلك صراحة، وهنا كان العرض وصل إلى ذروته، ففي النص الأصلي، وبعد أن يطلق الخنازير من محبسها، يرتدي بزة الزواج، التي احتفظت بها زوجته، ويقرر الخروج إلى الشمس لمواجهة مصيره، لكن المخرج، وهو حر في اختياره، أراد تحقيق مزيد من الإشباع، أو منح المتلقي مزيداً من فرص التأويل، مع الأخذ في الاعتبار وجوب التعامل مع نص العرض، لا النص الأصلي، بمعنى أن المخرج غير ملزم بالنهاية التي وضعها المؤلف، وإن كانت النهاية هنا أغلقت الباب تماماً أمام فكرة تعدد التأويلات، إذ أصدر حكمه هو، وانتهى بالبطل إلى ذلك المشفى.
انضباط درامي
بعيداً من الاختلاف حول النهايات المتعددة، نجح المخرج في صياغة عرض منضبط، إلى حد ما، على مستوى الدراما، وكذلك الإيقاع، بخاصة أننا كنا بصدد إما حوار ثنائي، أو مونولوغ داخلي، غالبية الأوقات، ما يمكن أن يصيب العرض بشيء من الترهل، أو يصيب المشاهد بالملل، لكن اختيار ممثل موهوب (مصطفى كرم) في دور بافيل، جنب العرض ذلك كله، فقد أجاد التلوين في الأداء، والانتقال من حال إلى آخر، وكان واعياً بطبيعة الشخصية التي يؤديها، وأزمتها الوجودية، مدركاً أن بافيل هذا شخصية أخلاقية في الأساس، بدليل الشعور الجارح والقاتل بالذنب، شخصية تبعث على الرثاء والتعاطف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نجح مصطفى كرم، الذي نال جائزة أفضل ممثل في المهرجان، في القبض على جوهر الشخصية وقراءتها بتمعن، فجاء أداؤه ليس مقنعاً فحسب، ولكنه كان ممتعاً، على مستوى استخدام مفردات الجسد، والجهاز الصوتي، والحركة المترددة والخجول، إذا جاز الوصف، التي تعكس الشعور بالخزي والعار. ما لم يقله بلسانه قاله بتعبيراته الجسدية، أي إنه أسهم بصورة واضحة في صناعة الصورة المسرحية وتعميق الرسالة، مما يشير إلى وعيه بطبيعة المسرح، وأن الكلام المنطوق ليس كل شيء، فالمشاهد إذا أغمض عينيه هنا، تتعطل لديه القدرة على التلقي والتفسير.
تعبيري وواقعي
مزج المخرج بين الواقعية والتعبيرية، وهو ما انتهجه الديكور كذلك (تصميم أحمد بركات مع الأزياء والماسكات) بانوراما زرقاء في مستوى مرتفع، بها قمر مضيء، وفي المستوى الأول على اليمين باب الحظيرة وسرير للنوم، وفي اليسار حظيرة الخنازير التي جاءت عبارة عن سياج خشبي علقت حوله ماسكات تمثل وجوه الخنازير، وفي المقدمة ما يشبه الحديقة، التي جرى استخدامها في مشهد خروج بافيل وزوجته براسكوفيا لاستنشاق الهواء النقي بعيداً من الحظيرة. منظر واحد ثابت، باستخدام خامات بسيطة وغير مكلفة، جرى توظيفه في خدمة العرض وصورته، ووعي مصمم الإضاءة (معاذ مدحت) إلى الحالات المزاجية المتعددة التي يمر بها بافيل، والتحولات التي تطرأ على شخصيته، فجاءت إضاءته لتعكس ذلك كله، وتلفت نظر المشاهد إلى تلك اللحظات المتوترة التي يمر بها.
العرض تمثيل موكا الجندي، في دور الفراشة، تأليف موسيقي شريف ياسر، وغناء ندى عادل، وأشعار هند يوسف، واستعراضات جيني الجندي، وماكياج مريم فياض ونانسي مجدي.
أطلق المخرج على عرضه (THE DUNG) ووضع إلى جوارها "الروث" كترجمة عربية للكلمة، وهو أمر لا مبرر ولا ضرورة له، كان يكفي أن يكون "الروث" فقط، أو حتى العنوان الأصلي "مكان مع الخنازير" فالمسرح يخبرنا أن كل ما يمكن الاستغناء عنه يجب الاستغناء عنه من دون تردد.