ARTICLE AD BOX
بعد مرور يومين من تنصيبه، نشرت وزارة الدفاع في الجزائر صوراً لتنصيب القائد الجديد لجهاز الأمن الداخلي، العميد عبد القادر آيت واعرابي، المعروف إعلامياً باسم الجنرال حسان، الذي خلف القائد المعفى عبد القادر حداد، المعروف باسم ناصر الجن، إذ كان تأخر بثّ صور التنصيب قد أثار بعض الجدل، وعزّز نسبياً إشاعات أطلقها ناشطون في الخارج بشأن أن يكون سبب عدم بثّ صور مراسم تسليم المهام مرتبطاً بغياب القائد المعفى حداد، والحديث عن اعتقاله للتحقيق معه، لكن بثّ الصور كذّب مثل هذه الإشاعات.
كان يمكن لهذا التعيين أن يكون ضمن المسار الطبيعي للمؤسسات والأجهزة الأمنية المعروفة في الجزائر بالتغيرات المتسارعة، وألا يثير كل هذا التركيز والانتباه، لولا أنه يرتبط بعودة لقائد أمني وُصف بأنه "عائد من بعيد"، بعد فترة محنة في السجن مرّ بها بين عامي 2015 و2020، حيث كان قد أُقيل من منصبه قائداً لوحدات مكافحة الإرهاب شكّلها خصيصاً جهاز الاستخبارات لتفكيك الجماعات المسلحة، خصوصاً في الجنوب ومنطقة الساحل. وجرت ملاحقته من قبل القضاء العسكري منتصف عام 2015، بتهمة مخالفة الأوامر العسكرية وإتلاف وثائق، في قضية ما زالت غامضة للعموم، وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات من قبل محكمة عسكرية، قضاها فعلياً في السجن، واستنفد عقوبته كاملة، قبل أن يُطعَن بعد ذلك في حيثيات الحكم والقضية، وتُعاد محاكمته مجدداً، حيث تقرر شطب الحكم السابق وإعادة الاعتبار لشخصه ومساره العسكري، ما مهّد بعد خمس سنوات من ذلك، لعودته التي لم تكن متوقعة إلى منصب قائد جهاز الأمن الداخلي، أحد الأفرع الثلاثة لجهاز الاستخبارات الجزائرية.
عاد مسؤولون جزائريون إلى دواليب الحكم والسلطة، بعد منفى سياسي أو مسارات ملاحقة قضائية وسجن، أو استبعاد يرتبط بمناخات واتهامات وُجهت إليهم
قبل عودة الجنرال حسان، كان سلفه عبد القادر حداد قد عرف فترة استبعاد، فرّ فيها إلى الخارج عندما اضطر إلى مغادرة الجزائر عام 2015، في خضم التغييرات التي كانت قد حدثت في تلك السنة لجهاز الاستخبارات، بعد تحييد قائده محمد مدين وتفكيكه إلى ثلاثة أفرع، وملاحقة بعض قادته وإحالتهم على القضاء العسكري. ظلّ من يُعرف بـ"ناصر الجن" في إسبانيا، مخافة أن يُسجَن في الظروف نفسها التي سُجن فيها سابقاً القائد الجديد للأمن الداخلي، ولم يعد منها إلا بعد وفاة الرجل القوي، قائد أركان الجيش السابق، الفريق أحمد قايد صالح، في ديسمبر/ كانون الأول 2019، وتسوية وضعية القيادات الأمنية والعسكرية التي كانت قيد الملاحقة. وبعد تسع سنوات من استبعاده، عاد عبد القادر حداد إلى الواجهة، بعد أن عُيّن مسؤولاً في جهاز الأمن الداخلي، ثم قائداً عاماً للجهاز في يونيو/ حزيران 2024، حتى إعفائه رسمياً السبت الماضي.
دورة الزمن السياسي في الجزائر
تذكّر هذه العودة بحالاتٍ سابقة لعودة مسؤولين جزائريين إلى دواليب الحكم والسلطة، بعد منفى سياسي أو مسارات ملاحقة قضائية وسجن، أو استبعاد يرتبط بمناخات واتهامات وُجهت إليهم. في عام 1999، عاد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم، رئيساً للجمهورية. قبل ذلك، كانت صورة الرئيس السابق متوقفة عند حدود رجل مهم في فترة الرئيس (الراحل) هواري بومدين، متهم باختلاس المال العام. قضى بوتفليقة 20 عاماً في ما وصفه بـ"عبور الصحراء"، في إشارة إلى منفى سياسي عاشه منذ نهاية السبعينيات، مباشرة بعد وفاة بومدين نهاية عام 1978، حيث استُبعِد بوتفليقة من الحكم، وجرت ملاحقته من قبل هيئات الحزب الواحد، جبهة التحرير الوطني، وفي مجلس المحاسبة (هيئة الرقابة المالية على الإدارات والوزارات في صرف المال العام)، بتهمة التصرف في أموال صندوق كان تحت تصرف وزارة الخارجية التي كان يديرها بوتفليقة بين عامي 1965 حتى بداية 1979. نُشر تقرير صحافي بشأنه في الصحيفة الرسمية المتحدثة باسم الحكومة وقتذاك "المجاهد".
غير أن الزمن السياسي يدور على الرحى. في مشهد تسلمه السلطة في الجزائر من الرئيس السابق اليامين زروال في إبريل/ نيسان 1999، حضر عمار بن عودة، الذي كان في السبعينيات رئيساً لمجلس المحاسبة، والذي كان قد أصدر تهم الاختلاس على بوتفليقة نفسه، ليسلّم هذا الأخير وسام الاستحقاق الوطني، بصفته (بن عودة) رئيساً لهيئة أوسمة الاستحقاق، وقدّم حينها اعتذاراته لبوتفليقة عن قضية المساس بالمال العام. وعاد بوتفليقة من بعيد، بعد منفى سياسي دام عقدين من الزمن، كان فيها اسماً منسياً، قبل أن يعتلي سدّة الرئاسة لعقدين من الزمن حتى ربيع 2019.
في أكتوبر/تشرين الأول 1988، اندلعت انتفاضة شعبية في المدن الجزائرية، أدّت إلى إسقاط نظام الحزب الواحد، وإقرار التعددية السياسية. كان أحد أبرز المستهدفين في الشعارات التي رُفعت في تلك التظاهرات، شريف مساعدية، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، وقد كان الحزب الوحيد في البلاد حينها. كان الشباب يهتفون في تلك التظاهرات بشعار "مساعدية سرّاق المالية"، وكانت تلك الشعارات السياسية موجهة ضد مساعدية في سياق استهداف سياسي موجه في تلك الفترة، ما دفع مساعدية إلى الاستقالة والعودة إلى بيته والتواري عن المشهد السياسي.
استمر ذلك حتى بداية عام 2001. كانت في تلك الفترة قد ظهرت خلافات بين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ورئيس مجلس الأمة بشير بومعزة، ودفع ذلك بوتفليقة إلى التفكير في إعادة استدعاء محمد شريف مساعدية إلى الواجهة السياسية. لقد كانت تلك العودة بمثابة ردّ اعتبار سياسي للرجل، وأُعيد تعيينه عضواً في مجلس الأمة، ثم رئيساً للمجلس. وشكلت تلك العودة السياسية مثار جدل حول قدرة الرجل السياسي في الجزائر على الاصطبار، وإمكانية العودة إلى الحياة السياسية بعد "موت" أو نفي في ظروف ما.
تبون عاد أيضاً
ينطبق ذلك على الرئيس الجزائري الحالي عبد المجيد تبون أيضاً. في مناسبتين، وجد تبون نفسه خارج الحكومة ومغضوباً عليه من قبل القوى المؤثرة في السلطة. بعد ثلاث سنوات من تسلُّم الرئيس السابق بوتفليقة السلطة، استُبعد تبون من الحكومة في يونيو 2002، عندما كان يشغل منصب وزير للسكن، وظل مُحالاً على الهامش لعقد من الزمن، حتى تشكيل حكومة عبد المالك سلال الأولى في يونيو 2012، حيث عاد مجدداً إلى وزارة السكن إلى غاية يونيو 2017.
بعد الانتخابات النيابية التي جرت منتصف ذلك العام، عُيّن تبون رئيساً للحكومة، لفترة لم تتجاوز الشهرين حتى بداية أغسطس/ آب 2017، حيث أُقيل من منصبه في وسط صراع حاد بينه وبين تكتل أرباب العمل. وسرت وقتها معلومات عن تواطؤ بين محيط بوتفليقة، وتحديداً شقيقه السعيد بوتفليقة (موقوف في السجن في قضايا فساد) مع الكارتل المالي، باستغلال مرور تبون بفرنسا في طريقه إلى العطلة السنوية، للزعم أنه التقى مسؤولين فرنسيين دون إذن من الرئيس بوتفليقة، فأُقيل في 15 أغسطس. وأعقب ذلك سجن نجله في قضية تلقي عمولات، قال تبون إنها مفبركة ضده بقصد إهانته، قبل أن يعود في أقل من عامين في الانتخابات الرئاسية التي جرت في ديسمبر/ كانون الأول 2019، رئيساً للجمهورية، وهو ما لم يكن متوقعاً.
ليست هذه النماذج لشخصيات أمنية وسياسية وحدها التي يمكن الحديث عنها في سياق تجارب العودة من مسارات المنفى والموت السياسي في الجزائر إلى الواجهة. هناك عدد آخر، من بينهم وزير الصناعة السابق علي عون، إذ كان قد تعرّض للسجن عندما كان مديراً للشركة الحكومية لصناعة الأدوية عام 2005، بتهم فساد، قال عنها عون لاحقاً إنها كانت مفبركة ضده بسبب رفضه منح صفقات لشركات فرنسية. وبعد ما يقارب 18 عاماً، عاد عون مديراً عاماً للصيدلية المركزية للمستشفيات، ثم وزيراً للصناعة الصيدلانية، فوزيراً للصناعة، وكان قريباً من منصب رئيس حكومة في غضون العام الماضي.
وبعد 28 عاماً من استبعاده من الحكومة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1995، وتناسيه سياسياً وتواريه عن المشهد الجزائري السياسي والإعلامي لفترة طويلة، عاد أحمد عطاف إلى وزارة الخارجية في مارس/ آذار 2023، وكانت عودته مفاجئة للرأي العام والطبقة السياسية، لأسباب عدة، ليس لكونه وجهاً من الوجوه البارزة التي ارتبطت بمرحلة الأزمة العنيفة في التسعينيات، ما جعله أحد المستهدفين بالنقد والمسؤولية السياسية عن تداعيات تلك الفترة، خصوصاً في علاقة بموقفه السلبي من اجتماع قوى المعارضة في سانت إيجيديو (إيطاليا) نهاية 1994، لكن لكون أن الفترة التي قضاها خارج دواليب الحكم والدبلوماسية، حدثت خلالها متغيرات كثيرة اختفت فيها دول وظهرت أخرى على الخريطة، وتغير جيل كامل من العاملين في الحقل الدبلوماسي على الصعيد الدولي، ما اعتبر عوامل قد لا تساعد عطاف على تحقيق الغايات التي استدعت إعادة تعيينه.
