ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">من الفيلم التونسي "سماء بلا أرض" (ملف الفيلم)</p>
في "نظرة ما"، كان الافتتاح تونسياً مع فيلم "سماء بلا أرض" لأريج السحيري، أما "أسبوعا صُنّاع السينما"، فاستُهلّ بفيلم "إنزو"، العمل الأخير للمخرج الفرنسي لوران كانتيه الذي توفي قبل إتمامه، فواصل شريكه الدائم روبان كامبيو المهمة. القسم الأصغر المتمثّل في "أسبوع النقاد"، دشّن دورته الجديدة مع "مصلحة آدم" للبلجيكية لورا فاندل.
في "سماء بلا أرض"، تقدّم السحيري حكاية ثلاث نساء من أفريقيا جنوب الصحراء، يعشن في تونس في ظروف قاسية: ماري، القادمة من ساحل العاج؛ ناني، أم شابة هاربة من ماضٍ صعب، وجولي، الطالبة الطموحة التي تعيش على أمل رسم مستقبل مختلف لعائلتها، بانضمام كنزا، الطفلة الناجية من كارثة غرق، تتشكّل بينهن خلية إنسانية صغيرة، تخلق من الهشاشة دعماً ومن الغربة دفئاً.
السحيري تواصل مشروعها السينمائي القائم على رد الاعتبار للفئات التي تعيش على الهامش، وتختار أن تضيء على وجود أفريقي داخل تونس، فالفيلم يستمد جذوره من لقاءات جمعتها بطلبة أفارقة جاؤوا إلى تونس للدراسة، قبل أن تتحوّل الهجرة إلى هوس أوروبي متضخم. رصدت المخرجة تفاصيل عالمهم المغلق: كنائس في شقق سكنية، مقاهٍ تجمعهم، حياة موازية تماماً لتونس الرسمية، وكأنها جزيرة داخل جزيرة.
وعلى رغم طموح الرؤية وفرادة الزاوية، فالفيلم بدا غير قادر على ترجمة أفكاره إلى لغة سينمائية مؤثّرة، كـأن تبدو بعض مشاهده غارقة في التوصيف والثرثرة والتكرار والإطالة، في ظل شخصيات حضورها بعيد، تنحسب على تجربة السحيري مقولة: النيات الحسنة لا تصنع فناً.
أما فيلم "إنزو"، فكان أشبه بوصية من مخرج فهم الشباب وعالمهم، لوران كانتيه، صاحب التحفة "بين الجدران"، يعود هنا بقصة بسيطة لكنها تحمل دلالات الزمن الذي نعيش فيه، يتقاسم إخراجها هذه المرة مع رفيقه روبان كامبيو الذي التقط الخيط بعد رحيله. يتتبّع الفيلم خطوات إنزو، مراهق يعمل في البناء على رغم خلفيته العائلية الميسورة، يرزح تحت وطأة طموحات والده، الذي يرى له مستقبلاً أكاديمياً مختلفاً. في الورشة حيث يعمل، يتعرف إلى فلاد العامل الأوكراني، وتتشكّل بينهما صداقة تمنحه منظوراً آخر للحياة، ويبدأ من خلالها في مساءلة اختياراته وحدوده المفروضة.
العمل مكتوب ومصوَّر بدقة، يبتعد عن الإثارة السردية لمصلحة رسم الشخصيات بأبعادها النفسية، ويؤكد مجدداً أن السينما ليست فقط ما يُروى بل كيف يُروى.
"مصلحة آدم" هو عن آدم، طفل في الرابعة، أُدخل إلى المستشفى بسبب إصابته بسوء تغذية، بناءً على قرار قضائي. لوسي، الممرضة المسؤولة، تتجاوز البروتوكول وتسمح لوالدة آدم بالبقاء إلى جانبه خارج الأوقات المسموح بها من المحكمة، لكن سرعان ما تتعقّد الأمور، إذ ترفض الأم مغادرة الغرفة، متشبثة بابنها، بكل ما تبقّى لها من قوة. أمام هذا المشهد الإنساني المؤلم، تجد لوسي نفسها ممزقة بين القوانين ومشاعرها، فتقرر التدخل، مدفوعة برغبتها في إنقاذ الطفل ودعم أمّ تصارع من أجل ما تبقى لها من أمومة.
استلهمت المخرجة فيلمها من انجذابها إلى عالم طب الأطفال وما يدور في كواليس المستشفيات، وبعد محاولات عدة، تمكنت من دخول مستشفى "سان بيار"، حيث عايشت الواقع اليومي لأقسام الطوارئ والاستشارات والاجتماعات الطبية، كما تابعت جلسات محكمة لحماية الطفولة، وتعاونت مع قاضية متخصصة ساعدت في تطوير السيناريو. هذا الانغماس كشف لها تداخلاً عميقاً بين الجوانب الطبية والاجتماعية والقضائية، وأظهر أن رعاية الطفل لا تنفصل عن العلاقة مع والديه، هذه الفكرة تتجسّد في شخصية لوسي، الممرضة التي تواجه معضلة يومية بين إنسانيتها وقيود البيروقراطية، اختارت المخرجة أن تحكي القصة من منظورها، للإضاءة على هشاشة النظام الصحي.
بالعودة إلى "أسبوعا صنّاع السينما"، فهذا القسم الذي تنظّمه جمعية السينمائيين في فرنسا، وأُسس في أعقاب ثورة مايو 68، وسبق أن عرض فيه كبار السينمائيين أعمالهم (ناهيك عمن انطلقوا منه)، يأتي عاماً بعد عام باختيارات تعيد تعريف معنى "سينما المؤلف". ومن الأعمال التي اندرجت هذا العام في هذا الإطار "لا وجود للموت"، فيلم تحريك كندي للمخرج فيليكس دوفور لابيريير الذي يشكّل تجربة بصرية وفكرية، تتناول سؤال الالتزام والثمن الباهظ للتغيير.
من خلال شخصية إيلين، التي تهرب إلى الغابة بعد تخلّيها عن رفاقها الثوريين خلال هجوم قرروا القيام به، يقدّم الفيلم رحلة داخلية تمزج بين الأسئلة السياسية والقلق الوجودي، وبخاصة مع ظهور مانون، صديقتها وخصمها في آن واحد، التي تحاصرها بخيار لا فكاك منه: إما الانضمام مجدداً إلى النضال أو ترك الآخرين يقررون مصيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتخطّى الفيلم الكليشيه الثوري عن "الأغنياء الأشرار"، ليطرح أسئلة أعمق حول دور الضحية ومسؤوليتها، مشيراً إلى أن الخلل الحقيقي قد لا يكمن فقط في السلطة، بل في هشاشة من يقاومها. استخدام الحيوانات كرموز (مثل العصفور والذئب والطائر الطنان) يُضفي بعداً حسياً يوحي بصراع البقاء، ويعزّز التوتر بين الغريزة والتفكير الأخلاقي. في خلفية الفيلم تسكن معضلة العنف: هل يمكن تبريره؟ وهل يبقى في يد من يشعله؟ يطرح الفيلم هذه الأسئلة تاركاً إياها مفتوحة.
مانون لا تمثل فقط مطاردة جسدية، بل تمثل تجسيداً لضمير إيلين، وللخوف الذي لا تعرف كيف تواجهه. يعكس الفيلم حيرة جيلٍ بأكمله أمام عالم متصدّع: التردّد بين الثورة والصمت، بين الغضب والتخاذل. كتبه المخرج وفي ذهنه أبناؤه، حاملاً إليهم شكوكه وتناقضاته وأحلامه.