التصوف، هذا المصطلح الذي ما زال يثير الجدل في وقتنا الحاضر، دفعني مؤخرًا لقراءة كتابٍ حوله، كان هدية من صديقي العزيز والوفي ڕزگار شيخ أحمد، الذي أرسل لي نسخة بصيغة (PDF) من كتاب: حقيقة التصوف بين التأصيل والتأثير، وهو دراسة علمية نقدية للتصوف الإسلامي، من تأليف بشير جلطي. وبعد أن أنهيت قراءته، دونت هذه الملاحظات.
حركة التصوف
منذ بدايات الخلافة العباسية، وبعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وامتزج العرب بغيرهم من الأمم، ظهرت حركة التصوف، وتبلورت فكرتها في خضمّ جدل فكري وصراع ديني وفلسفي محتدم، اتسم أحيانًا بالشدة والعنف، فقد كان الفلاسفة يتناظرون فيما بينهم، والمذاهب السياسية والفقهية تتصارع، حتي وصل الأمر إلى التكفير وسفك الدماء باسم الدين.
وسط هذا المناخ المتوتر، جاءت الصوفية بدعوة صادقة للعودة إلى الحياة الدينية البسيطة، كما عاشها النبي صلي الله عليه وسلم وصحابته الكرام، أمثال أبي ذر الغفاري. وكان من أهم مقوّمات منهجهم التضحية بالنفس، كردِّ فعل طبيعي على ما أصاب المجتمع من تفشٍّ للآثام والجهْر بالمعاصي.
طمأنينة القلب
البحث الصوفي عن الله لا يقف عند حدود الإيمان البسيط لعامة الناس، بل كان الصوفية يجاهدون في سبيل بلوغ مرتبة حق اليقين وطمأنينة القلب. جعلوا من حب الله جسرًا يصلون به إلى تلك الغاية التي لا يرون بعدها غاية أخري. ضحّوا بسعادتهم الدنيوية في سبيلها، ولعل عبارة ذو النون المصري تلخص هذا الموقف حين قال:”إن قدرت علي بذل الروح فتعال، وإلا فلا تشغل نفسك بترهات الصوفية.”
طعم العسل قبل تذوقه
أما عن تعريف التصوف، فهو أمر شاق عسير، يشبه محاولة تعريف طَعم العسل لمن لم يذقه من قبل. يُروي أن أحد المريدين جاء إلي الشيخ محيي الدين بن عربي وقال:”إن الناس لا يصدقون طريقتنا.” فأجابه الشيخ: “إذا طلب منك أحدٌ حجةً لمعرفة هذا الطريق، فاسأله: كيف عرفت أن العسل حلو؟ فإن قال: ذقته، وبالذوق يعرف؛ فقل له: كذلك التصوف، لا يُعرف حتي يُذاق.”
تعاريف التصوف
مع ذلك، تعددت تعاريف التصوف واختلفت مشارب الصوفية في تحديد معناه.
فقال معروف الكرخي: “هو الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق.” وقال بشر الحافي:”الصوفي من صفا قلبه لله.” أما أبو الحسن البصري فاعتبره: “صفاء السر من كدورات المخالفات.” وجمع الجنيد البغدادي الأمر كله بقوله: “التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفس، وتصفية الأخلاق، وعمارة الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية.”
الروحانية في الأدب الصوفي
الأدب الصوفي هو انعكاس صادق للتجربة الذاتية التي يعيشها الصوفي، فكرًا وسلوكًا ورياضةً للنفس، يغوص من خلاله في محيط المقامات الروحية، قاصدًا بلوغ الغاية المنشودة.
هذا الأدب يستعير أدواته من عالم الخيال، ويعبر من الواقع إلى آفاقٍ روحية لا تدركها الحواس.
ويمتاز باستخدام الرمز كوسيلة فنية فريدة، تُعبِّر عن الحالات النفسية العميقة التي قد تعجز اللغة المباشرة عن توصيفها. أما ما يشعل قلب الصوفي ويدفعه إلى الإبداع فهو الحب الإلهي الذي يملأ وجدانه، ويضيق به صدر الدنيا.
المصدر:
حقيقة التصوف بين التأصيل والتأثير (دراسة علمية نقدية للتصوف الإسلامي ما له وما عليه) — بشير جلطي، 2012، دار الكتب العلمية.