التدوير الأدبي وطوفان الرداءة

1 day ago 2
ARTICLE AD BOX

يشتكي قرّاء حول العالم من أنّ ثمّة رواياتٍ وأعمالاً أدبيةً أخرى لا ترقى إلى الترشّح لجوائز، وحتى للطباعة في دور نشر مرموقة، ويزيدون على تقييمهم السلبي لها بالإشارة إلى أنها تعيد إنتاج أفكارٍ وثيمات استخدمها أدباء سابقون، وقد يصل الأمر إلى حدّ اتهام أصحابها بالسرقة!

عند هذه العتبة، لا يدخل المتلقي في تضاعيف أفكار تشرح كيف يمكن لنصٍّ ما أن يعيش في جوف نصوصٍ أخرى؛ فهم لم يقرأوا عبارة الناقدة جوليا كريستيفا التي تقول إن "كلّ نصّ هو امتصاص لنصوصٍ أخرى". ولا يُتوقّع أن يكونوا مضطرين إلى البحث في معاني آليات التضمين، كالتناص أو إعادة الكتابة والاقتباس والتحوير! بل إنّ محور الانطباع يتركّز حول أن ثمّة شيئاً مكرّراً، شيئاً يجب ألا يحصل، بما أن العمل الذي يتسبّب بهذه المشكلة قد تجاوز عدّة فلاتر قبل الوصول إلى القارئ!

يمكن التأكيد أنّ هذا الإشكال في التلقي يكاد يصبح ظاهرةً عامة، فالجمهور قد لا يُدرك أن البشرية لم تخرج في صناعتها للأدب والفن عن عددٍ محددٍ من الثيمات، وأن كل ما يُقرأ ويُشاهد ويُسمع يجول في مواضيعها، كالحب والخيانة والمال والسلطة وغيرها، وأن التميّز يتأتى من عوامل إبداعية تُغلّف الثيمة وتعيد إنتاجها وفق رؤى مختلفة عن السابق.

ترسيخ ذاكرة أدبية تميّز بين الأصالة والتكرار المغلّف

لكن في الوقت نفسه، لا تُغادر الذاكرة الأدبية الأعمال الخالدة التي باتت علاماتٍ فارقة، ليس من زاوية القيمة الإبداعية التي أضافها صُنّاعها، بل أيضاً من ارتباط الثيمة بهم، رغم أنها لم تكن من ابتكارهم؛ فالجميع، على سبيل المثال، يتذكّر شخصية فاوست الذي يبيع روحه للشيطان من خلال رائعة الشاعر الألماني غوته، ولا يتذكّرونها من خلال نسخة كريستوفر مارلو السابقة على نسخة غوته. وحتى حين تُذكر النسخ اللاحقة الكثيرة، فإنّ المقاربات تجري حول الزوايا الخاصة في كلّ مرة، ما دامت الشخصية تقبل التجريب والتعدّد في الرؤى. غير أن ما يمكن أن يكون مفهوماً في حالة الشخصية الأدبية اللافتة، القابلة للتأويلات المتعددة، قد لا يكون كذلك أمام فكرة الصراع على السلطة، وقد صيغت بشكل غرائبي، كرواية جورج أورويل القصيرة مزرعة الحيوان، التي أشارت مقالاتٌ عدّة إلى أنها تتشابه مع نوفيلا أخرى سبقتها بستين سنة، كتبها الروسي نيكولاي كوستوماروف بعنوان ثورة البهائم (صدرت ترجمتها العربية عن محترف أوكسجين قبل فترة وجيزة)، مع وجود ما يثبت أنه قد اطّلع عليها، إذ لم يشر إليها مطلقاً، رغم المطابقة الحاصلة بين تفاصيل العملين!

إعادة تدوير فكرة العمل الأدبي دون الإشارة إلى أصلها أو أصحابها الأصليين تُوصف عادةً بأنها سرقة أدبية، وتخلّف فضائح كبرى، وفي المثال السابق عبرة؛ فحتى حين يتجاوز الزمن الواقعة، لا يمكن إغفالها من قِبل القرّاء الذين ما انفكّوا يُعجبون بها، وبما تحتويه من رسائل لا تزال معاصرة حتى يومنا هذا، ويشيرون إلى تميّز مؤلفها! فهل ما زالت هذه التفاصيل تحظى بالاهتمام ذاته، فيما لو كان المؤلَّف والمؤلِّف الذي سُرقت فكرة قصته أو روايته، من غير المشهورين؟

يحصل في أيامنا الراهنة أن ثمّة توجّهاً شبه راسخ في الأوساط الثقافية والأدبية للتغاضي عن مثل هذه الحوادث، وقد يصدم المرء حين يعرف بأنّ ثمّة فاعليةً يقوم بها البعض من أجل تمرير الأعمال ذات المضامين المتكررة، دون الإفصاح عن المصادر الأصلية، ودون التدقيق في سوياتها الإبداعية!

وفي محاولة تفسير هذا التواطؤ المُزري على ذائقة القراء وعلى السوق الأدبية، يقودنا التحليل إلى وجود إعادة إنتاج أفكار قديمة دون اجتهاد نقدي أو فني؛ نصوص تستعير أطراً روائية وفكريةً مكرورة (كأدب الحرب، النسوية المسطّحة، الهوية المنكسرة...) وتُقدَّم مرةً ثانية دون مساءلة جمالية أو معرفية، مقابل كسل نقدي؛ فالنقّاد إما غائبون وإما خاضعون للشبكات الثقافية المموّلة، ما يفتح المجال لترويج سطحي.

وهذه التجارب تصعد إلى السطح عبر تلميع اصطناعي بوسائط غير أدبية، كالدعم الإعلامي، والظهور المكثّف في منصات الجوائز، والترويج في معارض الكتب، والاستغراق في التغطيات الصحافية، رغم ضعف العمل نفسه، في رضوخٍ واضحٍ لنزعة السوق والجوائز؛ دور النشر تُفضّل الكتب التي تُباع بسرعة وتُترجم بسهولة، حتى لو كانت سطحية.

وفي النهاية، وبحجّة التجديد الشكلاني، والتركيز على كسر البنية التقليدية، واستخدام اللغة الهجينة واعتبار ذلك ابتكاراً يشفع للتجربة، حتى لو كان المضمون ضعيفاً، يُقدَّم عمل ضعيف، ممثلاً لجيلٍ أو تيار، ويُصبح العمل الرديء واجهةً مصطنعة لـ"أدب الشباب"، و"الرواية النسوية"، و"أدب ما بعد الثورة"، ويُغيّب أعمالاً أكثر عمقاً. ويُسهم غياب الذاكرة الأدبية في تكريس هذه الرداءة؛ فالقرّاء الجدد قد لا يعرفون أن هذه "الأفكار الجديدة" مأخوذة من أدب القرن العشرين أو قبله.

يُحيلنا هذا الوضع على تصوّر بيير بورديو عن الحقل الأدبي، حيث تتصارع رؤوس الأموال الرمزية والاقتصادية على تشكيل الذائقة. لكنّ البعض لا يرى في الأمر عمقاً يتناسب مع رؤية الفيلسوف الفرنسي ونظريته حول الحقول والصراعات فيها، ويتّجه بدلاً من ذلك إلى وصف واقع الحال هذا بأنه "اقتصاد قمامة ثقافية" تنتشر وتتراكم فوق بعضها، بعد أن تجمّعت وسط المحيط الأدبي، فيأتي أحدهم ليعيد تدوير المواد المتروكة، لا لأنّ لها قيمة، بل لأنّ السوق بحاجة إلى "محتوى" سريع. وقد يأتي أفرادٌ آخرون ليصنعوا محتوياتٍ مشابهة، لينتهي الوضع إلى ظهور شريحة من خبراء التدوير الأدبي والفني والثقافي عموماً!

يأخذ هؤلاء الشرعية في عملهم من محض وجودهم في السوق، حيث تُقلب أياديهم وعقولهم الرداءة إلى مال، في ظلّ حالات احتفالية تنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي، حتى نجد أن ثمّة واقعين ثقافيين يبدو أنهما يتصارعان: أولهما هذا الذي نتحدث عنه هنا، والآخر ذلك الذي لا حول له ولا قوة أمام تغوّلات سوق النشر وتكرار الطبعات، وفرض أصحاب الرداءة في الميديا!

إنّ الخروج من هذا المأزق يستدعي استعادة دور النقد الجمالي والمعرفي بوصفه سلطة توازن لا سلطة ترويج. وفي الوقت نفسه، لا بدّ من ترسيخ ذاكرة أدبية جماعية تميّز بين الأصالة والتكرار المغلّف. وفي النهاية: وحدها القراءة الواعية، ومعها النقد الجريء، قادران على إنقاذ الذائقة من طوفان الرداءة المتأنّقة.


* كاتب من سورية

Read Entire Article