ARTICLE AD BOX

<p>تشن وزارة الصحة المصرية حملات تفتيش مكثفة على المراكز الطبية التي تزاول أنشطة تجميلية من دون ترخيص (أ ف ب)</p>
يعيش عالم التجميل في مصر فوضى طبية عارمة، تبدأ من الكورسات التي تتبناها وتعلن عنها كيانات تعليمية وهمية أو غير مرخصة تهتم بهذا المجال، وتمنح من يخوضها لقب "متخصص تجميل" بالمخالفة للوائح الطبية، مروراً بالمراكز الطبية الخاصة بعمليات التجميل التي يُكتشف في نهاية الأمر أن غالبيتها من دون ترخيص طبي رسمي، وانتهاءً بالضحية الذي يدفع حياته ثمناً لتلك الفوضى الطبية في بعض الحالات.
وأخيراً، انتشرت في مصر برامج تعليمية تنظم داخل كيانات معروفة، بل وتحمل أحياناً أسماء جامعات حكومية مرموقة، مثل عين شمس والقاهرة، وتمنح شهادات مزينة بأختام وشعارات رسمية، تدعي تأهيل المشاركين ليصبحوا "متخصصي تجميل"، وما يضفي شرعية على هذه الدورات هو أن بعض المحاضرات تعقد داخل الحرم الجامعي نفسه، في وقت الجهات الفعلية المنظمة لها كيانات خاصة، قد تكون غير مؤهلة أو مرخصة بالأساس.
حقنة قاتلة
أثارت وفاة طبيبة الأسنان الشابة البالغة من العمر 27 سنة داخل مركز تجميل شهير بالتجمع الخامس في القاهرة موجة غضب، بخاصة بعدما أكدت إدارة العلاج الحر بوزارة الصحة المصرية أن المركز خالف اللوائح الصحية المنظمة لعمل المنشآت الطبية، إذ لم تكن أسرة الطبيبة تتخيل أن المركز الذي ذاع صيته في أحد أرقى أحياء القاهرة سيكون سبباً في نهاية حياة ابنتهم، إثر تلقيها "حقنة فيلر" على يد صيدلي منتحل صفة طبيب تجميل.
وبحسب تحقيقات النيابة العامة في القضية رقم 4294 جنايات التجمع الخامس (شرق القاهرة)، فإن الطبيبة "ش ش" توفيت نتيجة جلطة في الشريان الرئوي بعد حقنها بمادة "بادي فيلر" على يد شخص حاصل على بعض الشهادات التدريبية غير المعترف بها في مجال التجميل من كيانات تعليمية غير متخصصة، وغير مؤهلة قانونياً أو طبياً.
ورصدت "اندبندنت عربية" مئات الكيانات التدريبية التي تمنح شهادات تحمل شعارات جامعات مصرية معروفة في مجالات طبية دقيقة مثل التجميل اللاجراحي والتغذية العلاجية والطب التكميلي والتحاليل الطبية والإرشاد النفسي وتعديل السلوك تحت تسميات "متخصص" و"مدرب" و"معالج" على رغم أن غالبية الحاصلين عليها لا يمتلكون ترخيصاً طبياً رسمياً، بل وبعضهم من خريجي المؤهلات المتوسطة.
وحصلت "اندبندنت عربية" على نسخ من شهادات معتمدة ومختومة بشعار جامعة عين شمس، موقعة باسم عميدة كلية البنات، تفيد بحصول متدربين على 50 ساعة تدريب في مجال التجميل. إحدى هذه الشهادات كانت لمصلحة المتدربة "ن س"، وأخرى في مجال الطب التكميلي، صادرة بالتعاون بين كلية البنات بجامعة عين شمس ومؤسسة "اتعلم وعلم للتميز العلمي"، التي تمتلك صفحة موثقة على موقع "فيسبوك" تحت مسمى "برامج كلية البنات للآداب والعلوم - جامعة عين شمس"، وتعرض عليها صور للمتدربين في أثناء تلقيهم المحاضرات داخل قاعات الجامعة.
وتواصلت "اندبندنت عربية" مع هذه الجهات لاستقصاء التفاصيل المتعلقة بالدورات. وأكد القائمون على البرامج أن الكورسات متاحة لحاملي المؤهلات العليا وكذلك المتوسطة، مقابل رسوم تراوح ما بين 3 آلاف إلى 6 آلاف جنيه مصري، بينما يدفع الأجانب ما بين 200 و400 دولار أميركي حسب نوع الدورة. أما السداد فإما إلكترونياً عبر تحويلات مصرفية إلى أربعة بنوك مختلفة، أو مباشرة داخل الكلية نفسها، والأخيرة هي الطريقة التي اتبعتها معدة التحقيق، لاستكشاف مدى تبعية تلك الدورات للجامعة، إذ طالبنا أحد المسؤولين عن الدورة بالتوجه إلى كلية البنات للآداب والعلوم – جامعة عين شمس لإتمام إجراءات السداد، مما يثير تساؤلات حول مدى علم إدارة الجامعة بهذه الأنشطة، ودور الجهات الرقابية في ضبطها ومنع التلاعب بأسماء المؤسسات التعليمية الكبرى؟
المثير للقلق أن هذه الدورات تتيح للحاصلين عليها تأسيس مراكز تجميل، والتسجيل في ما يعرف بـ"نقابة المهن التجميلية"، وهي كيان غير رسمي. ووفق ما جرى توثيقه، تنتشر هذه المراكز على نطاق واسع في مختلف محافظات الجمهورية، إذ بلغ عدد مراكز التجميل نحو 10 آلاف مركز، إلى جانب نحو مليون "كوافير"، يمارس عديد منهم أنشطة طبية تجميلية من دون ترخيص، تشمل حقن الفيلر والبوتكس، وعمليات نحت الجسم والتخسيس، بل وصرف أدوية طبية خطرة لإنقاص الوزن.
وفي وقت بلغت فيه قيمة سوق عمليات التجميل عالمياً نحو 26 مليار دولار أميركي، ويتوقع أن تصل إلى 46 مليار دولار العام المقبل، تتصدر الولايات المتحدة القائمة، تليها البرازيل، إلا أن المؤشرات في مصر تنذر بكارثة مهنية وصحية صامتة. فغياب الضوابط القانونية والرقابة الفعلية على تلك الأنشطة ينذر بمزيد من الضحايا، على غرار الشابة التي فقدت حياتها، لا لسبب سوى أنها وثقت في شهادة معلقة على جدار مركز تجميل.
دبلومات التجميل
إلى ذلك يحذر استشاري التجميل والليزر محمد نجم من الانتشار الواسع للكيانات الوهمية التي تمنح دبلومات في التجميل، قائلاً "القائمون على هذه الدورات غالباً لا علاقة لهم بالمجال الطبي أو التجميلي، بعضهم لا يحمل سوى مؤهلات متوسطة مثل (دبلوم التجارة)، إلا أنهم يعملون في الكوافيرات ومراكز التجميل"، مضيفاً "الطلب المتزايد من السيدات على الإجراءات التجميلية الرخيصة شجع الكثيرين على إنشاء مراكز تدريب وهمية تمنح دبلومات العناية بالبشرة والشعر، لتصبح مهنة من لا مهنة له"، على حد وصفه.
ودائماً ما تؤكد وزارة الصحة المصرية حرصها على إحكام الرقابة على المنشآت الطبية الخاصة، والتأكد من استيفائها الشروط الصحية، وحصول العاملين بها على التراخيص اللازمة والمؤهلات العلمية لممارسة عملهم في إطار قانوني منضبط، بما يضمن سلامة المواطنين، ويحد من المخالفات التي تهدد الصحة العامة.
وسرد نجم واقعة وصفها بـ"العبثية"، حينما زار إحدى الجامعات في صعيد مصر، ليكتشف أنها استضافت "بلوغر" لإلقاء محاضرة عن التجميل، على رغم عدم امتلاكها أي مؤهل علمي. مشيراً إلى سيدة أخرى ليست طبيبة، تمتلك مركز تجميل في الصعيد قرب مديرية الصحة، تحت لافتة إعلانية ضخمة، دون وجود أي رقابة أو محاسبة، مطالباً "إدارة العلاج الحر بالتحرك لمحاسبة المسؤولين عن هذه المخالفات الجسيمة".
من جانبه يقول هاني سامح، محامٍ، "الفوضى التي تشهدها الساحة الأكاديمية والتدريبية في منح الشهادات والدبلومات من كيانات غير مرخصة تمثل خطراً بالغاً على المجتمع"، موضحاً "هذه الشهادات وهمية ولا قيمة قانونية أو أكاديمية لها، لعدم خضوعها لأي من الضوابط التي ينظمها قانون الجامعات أو المجلس الأعلى للجامعات في مصر".
وأشار سامح في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إلى أن هذه الكيانات تمارس النصب والاحتيال بطرق ممنهجة، وتقع تحت طائلة قانون العقوبات المصري، تحديداً المادة 336، التي تنص على أن "كل من توصل إلى الاستيلاء على نقود أو عروض أو سندات دين أو أي متاع منقول من طريق الاحتيال أو اتخاذ صفة كاذبة، يعاقب بالحبس". وأضاف، "حتى من شرع في النصب ولم يتمه يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز السنة، وفي حال تكرار الجريمة، يجوز وضع الجاني تحت مراقبة الشرطة لمدة تراوح ما بين سنة وسنتين".
وفيما يتعلق بقانون الجامعات ومدى ضوابط منح الشهادات والدرجات العلمية يقول سامح، "القانون واضح وصريح، وأي شهادة تصدر خارج الضوابط المعمول بها تعد غير قانونية ولا يعتد بها"، مستنداً في حديثه إلى اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم الجامعات، وبخاصة المادة السادسة، التي تنص على تشكيل لجنة تابعة للمجلس الأعلى للجامعات لمعادلة الدرجات العلمية. وتتولى هذه اللجنة دراسة الدرجات والدبلومات الصادرة عن الجامعات والمعاهد غير الخاضعة للقانون رقم 49 لسنة 1972، ومعادلتها بالدرجات العلمية المعتمدة من الجامعات الحكومية المصرية.
وشدد المحامي المصري على أن تجاوز هذه الإجراءات يجعل الشهادات غير معترف بها، مما يجعل استخدامها في سوق العمل، بخاصة في المهن الطبية، أمراً بالغ الخطورة قانونياً ومهنياً، محذراً من قيام غير المؤهلين باستخدام هذه الشهادات الوهمية لمزاولة مهن حساسة مثل الطب والتجميل والتغذية العلاجية، ومطالباً بتكثيف الرقابة على هذه الكيانات غير القانونية، والتشديد على أهمية التحقق من الاعتمادات الأكاديمية والتدريبية قبل الالتحاق بأي دورة أو برنامج تدريبي والتوعية المجتمعية بأخطار الشهادات غير المعترف بها.
وأوضح أن القانون المصري يحظر تماماً على أي شخص غير مرخص له تقديم مشورة طبية أو الكشف على مريض أو إجراء تدخل علاجي أو وصف أدوية أو ممارسة الطب بأية صفة كانت، ما لم يكن مصرياً أو من دولة تسمح للمصريين بمزاولة المهنة فيها، ومقيداً في سجل الأطباء بوزارة الصحة، ومسجلاً في جدول نقابة الأطباء، مشيراً إلى أن الحصول على هذا القيد يتطلب بكالوريوس في الطب والجراحة من إحدى كليات الطب المعترف بها، مع إتمام فترة تدريب إجباري تحت إشراف أكاديمي، سواء في مستشفيات جامعية أو عسكرية، على أن تعادل المؤهلات الأجنبية وفقاً لضوابط مماثلة.
أنشطة تجميلية
من جانبها قالت عميد كلية البنات للآداب والعلوم بجامعة عين شمس أميرة سيد في تصريح خاص إلى "اندبندنت عربية" إن ورش التجميل اللاجراحي "غير متاحة نهائياً داخل الحرم الجامعي"، مؤكدة أن إدارة الكلية "اتخذت الإجراءات القانونية اللازمة لمنع تداول الإعلانات المضللة التي تزعم خلاف ذلك"، ومشددة على أنها "إعلانات غير صحيحة، ولا تمت للواقع بصلة". وأضافت، "أي دورات تدريبية تعقد داخل الكلية تكون منبثقة من التخصصات العلمية والأكاديمية المعتمدة في الكلية، وبما يتماشى مع اللوائح والقوانين المنظمة للعمل داخل الجامعة"، موضحة "مركز الخدمات التابع لكلية البنات يعمل بانضباط كامل، وندير من خلاله 14 نشاطاً فحسب، جميعها ذات صلة وثيقة بالتخصصات المعتمدة والمسجلة بالكلية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن، وعلى بعد أمتار من مبنى الكلية رصد وجود كيان يدعى "مركز اتعلم وعلم للتميز العلمي" يروج لدورات في مجال التجميل اللاجراحي، مدعياً أن الشهادات معتمدة من كلية البنات جامعة عين شمس، تحت إشراف شخص يدعى "هـ ر".
وفي السياق ذاته أعلنت مؤسسة أخرى تعرف باسم "تطويرك بلس" عن تنظيم برامج تدريبية مماثلة، زاعمة أنها تتعاون مع جامعة القاهرة، وتمنح شهادات موثقة من وزارة الخارجية المصرية، مقابل رسوم إضافية، في حال طلب المتدرب توثيق الشهادة للعمل خارج البلاد. وتبلغ كلفة الدورة التدريبية 5 آلاف جنيه للمصريين و350 دولاراً للأجانب.
وكانت وزارة الصحة والسكان وجهت المديريات الصحية في المحافظات بشن حملات تفتيش مكثفة على المراكز والمنشآت الطبية التي تزاول أنشطة تجميلية أو طبية من دون ترخيص. وأسفرت هذه الحملات عن ضبط أكثر من 3000 منشأة مخالفة، جرت إحالتها للتحقيق، كما تلقت إدارة العلاج الحر والتراخيص الطبية أكثر من 1300 شكوى خلال عام 2022، تتعلق بممارسات غير قانونية داخل هذه المراكز.
وفي ظل هذه الفوضى المتزايدة في عالم التجميل غير الخاضع للرقابة، تبرز الحاجة الملحة إلى تدخل عاجل من الجهات التشريعية والتنفيذية لإعادة ضبط المنظومة، وحماية أرواح المواطنين من الممارسات غير القانونية. فبين شهادات وهمية، ومراكز تجميل تعمل خارج الإطار الطبي، يقف الأمن الصحي في مصر أمام تحد حقيقي، لا يمكن مواجهته إلا بحزم قانوني، ووعي مجتمعي، ورقابة صارمة تضع حياة الإنسان في مقدمة الأولويات.