الاستثمار في سورية بعد فرعون والفرعونية

1 day ago 2
ARTICLE AD BOX

يمكننا القول، وفق ما درج في سورية أيام الرئيس السوري الأسبق، حافظ الأسد بأنه المعلم الأول والمزارع الأول والقاضي والمحامي وحتى الرياضي الأول، وإنه أيضاً فاتح الاستثمار الأول، فهو، وبالتوازي مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، من فتح باب الاستثمار للقطاع الخاص، بعد أن وصفه وجوقته، على مدى عشرين عاماً، بالقطاع الطفيلي وأتبعوه لبقايا الرأسمالية البغيضة والليبرالية المتوحشة والإمبريالية والاستعمار البغيضين.

بيد أن أول قانون للاستثمار الصناعي في سورية الحديثة، القانون 10 لعام 1991 المستورد "نسخاً لصقاً من مصر" كان على مبدأ "شرف الوثبة" بغض النظر عن "غلب الواثب أم لم يغلب" لأن الضرورة المرحلية وقتذاك، فرضت على الأسد الوارث أن ينحني أمام رياح ما بعد الشيوعية بمحاولة مضللة "أن سورية تتسع للجميع" كما قال حينذاك، ويصدر قانوناً لمشاركة القطاع الخاص، المحلي والدولي، في البناء والإنتاج، طبعاً مع الاحتفاظ بالقطاع الحكومي، حتى في صناعة "العلكة والمناديل والبطاريات والدهان" وبقاء وصفه بالقطاع الريادي، ليكون بسرقته مصدراً لتكوين رأس مال مافيا الأسد.

لذا، ومن يتتبع الاستثمارات الصناعية التي جذبها القانون 10، يلحظ أنها، في الغالب، صناعات تكميلية ولمسة أخيرة أو مشابهة لإنتاج القطاع العام، متأثرة بمخاوف التأميم الذي حدث نهاية خمسينيات القرن الماضي وغير واثقة بمناخ منفّر محكوم لسلطة مستبدة وقانون ملغّم، يجوز في معظم مواده، الوجهان. ولم تجذب سورية، جراء المخاوف وعدم تقديم قانون الاستثمار مزايا إضافية وحوافز تشجيعية، ما يغني البلاد عن المستورد أو يحوّلها، وفق ما تزخر به من مواد أولية ومهارة تراكمية وأيد عاملة رخيصة، إلى قبلة للاستثمار أو "هونغ كونغ الشرق الأوسط" كما كان يشاع في تلك المرحلة. 

وما يقال عن الاستثمار الصناعي، ينسحب، بشكل أو بآخر، على الاستثمار الزراعي وتجارب الشركات المشتركة الفاشلة أو الاستثمار السياحي الذي أبقى كنوز سورية ومواقعها، أسيرة الإهمال أو استقطاب بعض المستثمرين المحليين، منذ ثمانينيات القرن المنصرم، الذين كلفهم القائد الأول، بأدوار وظيفية مقابل منحهم بعض الفنادق أو المنتجعات.

وبقي الحال في سورية، بين تشجيع نظري لئلا تحسب على محور الاشتراكية، وتضييق عملي كي لا تخترق الخصوصية التي بناها الرئيس وفق السرية والشللية واقتسام الثروات، إلى أن مات حافظ الأسد عام 2000 من دون أن يفتح الباب، حتى لاستثمار الاتصالات الخلوية، فكانت سورية آخر دولة في المنطقة تدخلها الاتصالات الفضائية، والبلد الأقل جذباً للأموال والوكالات العالمية الكبرى أو الشركات العابرة للحدود والقارات.

وجاء "الولد سر أبيه" بشار الأسد ليرث النهج والذهنية، وإن بأدوات جديدة، فرضتها المرحلة وشروط التوريث، فاضطر لينفتح على الخارج ويدعّي الحرص على جذب الأموال والاستثمارات، ولكن بنهج استئثار ومحاصصة، لم يجرؤ عليها حتى من ورّثه، لأن العبث في الحصص بالسورية، كان ضمن عقد اتفاق حافظ الأسد مع من تبقى من أقطاب ورجال أعمال دمشق وحلب، حول نفوذ الداخل والاقتصاد، كما الاتفاق مع رفاق النضال، على الجيش والمنظمات، في مقابل القيادة للأبد للرئيس حافظ الأسد.

وبدأ الابن الوريث بإصدار مراسيم وقوانين الاستثمار، الصناعي والزراعي والسياحي والمالي، بما يتواءم مع ما ادعاه بشعار "التطوير والتحديث"، فمنح استثمار الخليوي عام 2000 لابن خاله رامي مخلوف والمستثمر المصري نجيب ساويرس قبل الاستيلاء على حصة ساويرس وطرده، ومن ثم إدخال واجهة لبنانية، والقانون التجاري البحري والملاحة الجوية، في العام نفسه، ثم المرسوم 30 لعام 2001 القاضي بترخيص الجامعات الخاصة، فالمرسوم 40 لعام 2003 للاستثمار في المناطق الحرة، ومرسوم إحداث المدن الصناعية عام 2004، والمرسوم 43 للاستثمار في الصحة والتأمين بعد مرسوم الاستثمار في المصارف ومرسوم حماية الصناعات الناشئة.

ولما شعر الأسد الوريث، أو قيل له، إن قانون الاستثمار رقم 10 بات ضيقاً على البلاد، بعد الانفتاح النظري، أصدر عام 2007 المرسوم رقم 8 لتشجيع الاستثمار، بعد أن أحدث، في العام نفسه، هيئة الاستثمار السورية، ليتابع رشق القوانين والمراسيم، كقانون التجارة عام 2007 والتطوير والاستثمار العقاري عام 2008 والقانون 18 لتشجيع الاستثمار عام 2021 وتعديله في القانون 2 لعام 2023.

الأمر الذي حوّل قوانين الاستثمار في سورية، إلى متاهة يصعب على أي صاحب مال أو مستثمر عبورها أو فك طلاسمها، مع تزايد قانون "الأمر الواقع" الذي يمنح الحق للرئيس أو أحد مشغلي أمواله، وبمقدمتهم رامي مخلوف، منح أي فرصة أو مطرح استثماري، إن دفع المعلوم والنسبة المتفق عليها، ما جعل لقب "السيد عشرة في المئة" تسري على محمد مخلوف أبو رامي، قبل أن يتسلم المهمة رامي ويحاصص ويقاسم ويسمح ويمنع، باسم وتوجيهات السيد الرئيس.

قصارى القول: في واقع التيه القانوني الموروث من عهد الاستبداد الأسدي، أليس من المنطق أن نسأل، كيف لرأس مال أو مستثمر أن يأتي إلى سورية، وبناء على أي قانون أو مرسوم أو حتى مزاج، يمكن أن يجازف بأمواله، لأن رأس المال وصاحبه، ليسا جبانَين كما يشاع، بل من أبسط حقوقهما، معرفة المناخ والقانون والسوق والقدرة الشرائية، قبل أن يدفعهما، حتى الحماس إلى المشاركة في بناء سورية الجديدة.

وهذا طبعاً، من دون أن نسأل عن غياب السلطة التشريعية (مجلس الشعب) التي لا بد أن تصادق على أي اتفاق أو مشروع كبير، لتحيله إلى الرئيس ليصدره في مرسوم، وسورية، كما يعلم المتابع، من دون برلمان بعد حل جوقة التصفيق الأسدي المسماة بهتاناً مجلس شعب. الأمر الذي يفرض، نعم يفرض، على السلطة في دمشق وسريعاً، إصدار قانون استثمار يتلاءم مع مرحلة الانفتاح والوعود وإزالة العقوبات. قانون عصري يشجع الأموال والمستثمرين والدول، لتمد اليد إلى سورية المهدّمة، من دون أن تجازف أو تخسر أو تشوبها الشكوك.

قانون متطوّر ومنافس، بنصه وتسهيلاته وحوافزه لما تقدمه دول الجوار على الأقل، يشجع ويجذب ويحمي خلال التأسيس والتسجيل والإنتاج والتصدير وتحويل الأموال، والأهم، جامع للقطاعات، لاغ لما قبله من تعدد وتشتت، شفاف وواضح ويبعد المستثمر عن التيه وعدم التملّك وما كان يعلق عليه سابقاً، من مطبات خلال مقولة "الخصوصية السورية". وإلى جانب القانون، أو قبله، استحداث بوابة الاستثمار السورية لتقوم بدورها، وفق نافذة واحدة، بشرح النص والحوافز وخدمات الترخيص والتأسيس ودراسات الجدوى وتشبيك المستثمر مع أقرانه، للتشارك أو معرفة المنافسة والقطاعات المشابهة.

نهاية القول: ربما بزوال العقوبات الأوروأميركية، وبدء، خلال أسابيع، ربط سورية بالكامل بنظام "سويفت" للمدفوعات الدولية، يكون عدم صدور قانون للاستثمار، الثغرة الكبرى التي يعاني منها المناخ السوري. بل الأمر المستغرب بواقع ما يقال عن تهافت الرساميل وزيارات رجال الأعمال وتوقيع بعض الشركات والدول اتفاقات استثمار وإن بصيغة " مذكرة التفاهم" هو غياب مجلس الشعب المشرّع وقانون الاستثمار الذي يعد المنطلق الإجباري والإطار التشريعي الذي ينظم العلاقة بين المستثمر والدولة ويحفظ حقوقهما.

ولطالما تريثت القيادة السورية، إن لم نقل تأخرت أو تلكأت بإصدار القانون، حبذا لو تأخذ تشغيل العمالة ونسبة القيمة المضافة بالصناعات لأكثر من 50% في الحسبان ولا تتساهل في قضايا التنظيم والبيئة، والأهم، أن تعقد سوقاً أو مؤتمراً للاستثمار، لا يقتصر برنامجه على الجذب والتشجيع، بل بعرض الفرص والقطاعات بما يتناسب مع حلم بناء سورية الجديدة، عبر خريطة وخطة، حتى ولو بعيدة عن توقعات الممولين والدول الداعمة، التي قد يتطلع بعضها إلى بناء سورية وفق مصالحه لا وفق ما ينقل سورية من البؤس إلى ما يحلم ويَعد صانع القرار وينتظر الشعب بعد سني التضحية والحرمان.

ولعلّ الأهم والأخطر، إلى جانب عرض ما تحتاجه سورية لا ما يفرضه الآخرون والنية بالانفتاح والتطوير وليس المتاجرة بهما، هو تجفيف أي مستنقع للسمسرة أو الفساد وإلغاء القيود الإدارية التي تجهض أي قانون، كي يتأكد الجميع، بعد سقوط مملكة الأسد، أن فرعونَ ذهب وذهبت معه الفرعونية، وفي سورية اليوم، من الشفافية والربح والإغراء، ما يجذب كبار المستثمرين ليضفوا على مناخها وثرواتها، ثقة ومصداقية وآمالاً.

Read Entire Article