ARTICLE AD BOX
في تسعينيات القرن الماضي، ومع انفجار البث الفضائي حول العالم، قرّر الرئيس السوري حافظ الأسد أن يبني جداراً إعلامياً عازلاً بين السوريين والعالم، فهو حَظر "الستالايت"، إذ قيّد ما يُعرض على الشاشات السورية بالقنوات الرسمية فقط، ليضمن أن تبقى الرواية الوحيدة المتاحة هي رواية النظام القائم.
في ذلك الزمن وكما في كل زمان، لم يكن الإعلام مجرد وسيلة لنقل المعلومة، بل كان أداة من أدوات السيطرة، تُصاغ عن طريقها الحقيقة وتُقصي ما ليس مناسباً من روايات أخرى، حينها جعل حافظ الأسد من شاشة القناتين الأرضية الأولى والثانية النافذة الوحيدة لجمهور السوريين نحو العالم، لكنها نافذة وضع النظام الحاكم إحداثياتها وأطرها بنفسه، ولم يسمح لانفتاح العالم أن يعكر ما تحكم فيه لأكثر من عقدين.
عبر التاريخ السوري المعاصر، تحول سؤال الإعلام الرسمي ليصبح أكثر تعقيداً، ولا سيما بعد ثورة 2011 ومن ثم سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024. وها هو اليوم يتكرر سؤال الإعلام، ولكن هذه المرة حول غيابه: ماذا يعني أن تغيب الدولة عن إنتاج خطابها؟
حتى اللحظات الأخيرة قبل سقوط نظام بشار الأسد، ظل الإعلام الرسمي السوري متمسكاً بسردّيته المعتادة: "كل شيء تحت السيطرة". في اليوم الذي انهارت فيه السلطة، بثّت الفضائية السورية تقريراً يظهر مواطنين يعبرون عن دعمهم للرئيس، متجاهلةً ما كان يحدث على الأرض من شحنٍ واحتقان.
بعد ساعات فقط، توقّف البث، وظهرت على الشاشة صورة ثابتة كُتب عليها: "انتصار الثورة السورية العظيمة، وإسقاط نظام الأسد المجرم"، تزامن ذلك مع بيان مقتضب صدر عن فصائل معارضة، أقرب إلى "البيان رقم واحد"، ولكنه بدا مرتجلاً، ضبابياً، ويعكس غموض اللحظة أكثر مما يعبّر عن وضوح سياسي.
ذلك زمانٌ وهذا زمانٌ آخر، بعد مضي نحو خمسة أشهر على هذا التحول، توقفت القنوات الرسمية السورية عن البث نهائياً، رغم الانتقال من "الحكومة المؤقتة" إلى ما سُمي رسمياً "الحكومة الجديدة" لتجنب الالتزامات السياسية التي تفرضها تسمية "الانتقالية"، وتفادياً لاستحقاقات الحكومة الانتقالية التي تقتضي بالضرورة توافقاً بين الأطراف السياسية السورية. ثمّ، وفي الخامس من مايو/ أيار الحالي، عادت الإخبارية السورية إلى البثّ، بوصفها أولى قنوات الإعلام الرسمي العائدة إلى الحياة بعد حقبة "البعث".
لم يكن انهيار الإعلام الرسمي مفاجئاً، بل نتيجة طبيعية لمسار طويل من التضليل وانفصاله عن الشارع، إذ لطالما تعامل مع الجمهور بعقلية فوقية، تارةً تستغبيه، وتارةً تستفزه، لكنه في الحالتين كان متمسكاً بإعادة إنتاج خطاب السلطة لا غير.
تحوّل الصحافي في هذا الإعلام إلى موظف يردد ما يُملى عليه من دون حق في المساءلة أو التعديل، ولاؤه للنظام تجاوز الولاء المهني، حتى بدا أكثر "أسديةً" من الأسد نفسه. ومع وصول النظام إلى لحظاته الأخيرة، استمر الإعلام في تلميعه وكأن شيئاً لم يتغير، فالإعلام لم يمنح أدنى درجات الاستقلالية عن السلطة، بل امتد إلى بنية السلطة نفسها فكان نسخة كربونية عن فكرها الإقصائي. فالوجوه السياسية التي تصدرت الشاشات الرسمية تحولت إلى ظلال للنظام وأقنعة لشخصيات أمنية تمارس الدور ذاته ببذلة رسمية.
وفقاً لتحليل الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير، فإن الإعلام الرسمي هو من آليات الدولة الأيديولوجية، هدفه الحفاظ على النظام القائم عبر تبرير البنية الاجتماعية والاقتصادية وترسيخ الهيمنة. بهذا المعنى، لم يكن الإعلام مجرد ناقل أخبار، بل كان حيزاً لفهم كيف يفكر النظام، حتى في أكثر لحظاته استخفافاً بالواقع.
غياب الإعلام الرسمي، إذاً، لا يعني فراغاً في البث فقط، بل فقدان الجهة التي كانت تؤطر النقاش العام، حتى ولو بسردية مشوّهة، وصحيح أننا في مرحلة أفول الإعلام الرسمي على مستوى العالم، إلا أن هذا الإعلام عينه طور أساليب لاستمراره، ولتمرير خطابه بوسائل ناعمة، أي عبر برامج الترفيه والمسلسلات الدرامية وغيرها، كما لجأ إلى عرض أكثر من سردية للموضوع نفسه، وتعمد تغليب الرواية التي يُراد رسمياً تعويمها من دون أن تكون فجة، أو منفرة.
واليوم، في ظل عدم وجود رواية رسمية موحدة، أو بالأحرى إعلام رسمي شاملٍ للسرديات، ومرجحٌ لسردية السلطة، تشظّى الخطاب الإعلامي بين جهات مجهولة، ووسائط تغذي خطاباً إقصائياً وطائفياً، فيما تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى البديل، رغم افتقارها إلى المعايير المهنية والضوابط.
المفارقة أن التلفزيون السوري الذي تأسس عام 1960 منصةً للخطاب الرسمي، لم يُهدم بقرار، بل تآكل من الداخل. الحاجة اليوم ليست في إلغاء هذا الإعلام، بل في إعادة بنائه على أسس مهنية ووطنية تجعله يستعيد ثقة الجمهور الذي هجر الإعلام الرسمي منذ سنواتٍ طوال لصالح إعلام بديل أو منصات مواقع التواصل الاجتماعي.
في ظل هذا الانهيار، كانت التصريحات الرسمية تُنقل عبر قنوات غير رسمية على تطبيق تليغرام، حتى كلمة الرئيس السوري أحمد الشرع، لما أمسى رئيساً انتقالياً، ظهرت على قناة تليغرام، ما يعكس حالة غياب الجهة المخولة بنقل الخطاب.
لكن أخيراً بدأت قناة الإخبارية السورية بثها من جديد، بينما استُبعدت باقي القنوات (الفضائية، دراما، نور الشام، التربوية)، مع إزاحة وجوه المذيعين المرتبطين بالنظام السابق.
بحسب تصريحات عدة مسؤولين، بينهم مدير العلاقات العامة في وزارة الإعلام علي الرفاعي، فإن العقوبات المفروضة على الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، إضافة إلى تهالك المعدات، ونقص الكوادر المؤهلة بسبب الفساد والمحسوبيات، كانت أبرز أسباب تأخر العودة إلى البث.
لكن في الواقع، المشكلة أعمق من ذلك. غياب الإعلام الرسمي فسح المجال للفوضى والتخوين، وتراشق الاتهامات، بالإضافة إلى تضارب التأويلات بين ناشط موالٍ للسلطة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وآخر معارض لها، الأمر الذي عكس هشاشة الشعور الوطني، وتراجع الثقة بين المواطنين والسلطة.
في هذه الظروف، تصدّرت المراصد والصفحات الإخبارية ووسائل الإعلام الأجنبية المشهد مصدراً للمعلومات، خاصة مع المجازر في الساحل السوري في مارس/ آذار المنصرم، وأحداث مدينتي جرمانا وصحنايا في محافظة ريف دمشق ومحافظة السويداء جنوبي سورية في مطلع شهر مايو/ أيار الحالي، ما أعاد طرح السؤال بشأن الحاجة إلى إعلام وطني موثوق، لا يعبر عن السلطة فقط، بل يمنح الناس مساحة لمساءلتها.
ولا يزال الإعلام السوري يدار بذهنية أقرب إلى "ناشط فيسبوك" منها إلى مؤسسة رسمية، تمثل الدولة الجديدة، فخطاب غالبية الإعلاميين المحسوبين على السلطة الجديدة مؤدلج، وشعبوي، يغذي الانقسامات، ويُدار من دون معايير أو ضوابط، في مناخ يغلب عليه الشك وانعدام اليقين، وهذا ما يطرح تساؤلات حول علاقة السلطة بخطاب أولئك "المؤثرين".
هذا التناقض الحاد بين الحضور الإعلامي الأجنبي الكثيف والتأثير شبه المعدوم للإعلام الرسمي السوري بعد عودته، حتى في عقر داره، يرمز إلى أزمة أعمق من مجرد تعطل تقني أو نقص في الكوادر.
إنه انعكاس لفقدان الثقة وتآكل الشرعية، ليس بين الإعلام والجمهور فقط، بل بين الدولة ومفهومها ذاته راويةً للواقع، فالإعلام لم يكن يوماً مجرد وسيلة لنقل الخبر، بل كان دائماً طرفاً فاعلاً في تشكيل الوعي العام وتوجيه الانتباه.
بالإضافة إلى أن هذه السلطة الجديدة تحاول أن تتلمس الموقع المناسب لها دولياً وإقليمياً وفي الداخل السوري أيضاً، فقد يضعها إعلامها الرسمي تحت الأضواء، في حين تحاول كسب الشرعية الدولية عبر خطاب مقتضب وأكثر مرونة.
أما اليوم، في مرحلة ما بعد سقوط النظام، وبينما تتشكل ملامح الجمهورية السورية الجديدة، فتبقى الحاجة ملحة إلى إعلام مهني، وطني، حر، يتجاوز رواسب الماضي، ويكون قادراً على ترميم الهوية الوطنية الجامعة، وإيجاد مساحة للجدل الديمقراطي والمسؤول، بعيداً عن منابر التحريض والخطابات الطائفية والانقسامات التي تهدد بفقدان ما تبقى من نسيج سوري مشترك.
