الأم ليست كما عرفناها: سرديات مغايرة في مهرجان كان

1 day ago 5
ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">من الفيلم السكتلاندي "مت حبيبي" (ملف الفيلم)</p>

من الأمومة التي تتحول إلى عبء نفسي يهدد تماسك الذات، إلى أمومة تقاوم من أجل تأمين الكرامة والحماية للأبناء في وجه الأحكام المجتمعية، وصولاً إلى الأم الغائبة التي تستحيل جرحاً مشتركاً في ذاكرة امرأتين تسعيان إلى مصالحة متأخرة مع ماضٍ مثقل بالفقد، تتعدد زوايا المقاربة وتتعمق. السينمائيون، رجالاً ونساءً، حملوا شخصياتهم النسائية تجليات معقدة للأمومة، بعيدة من الصور النمطية، مستندين إلى فهم حدسي وعاطفي لحقيقتها الهشة. وهذا ما بدا جلياً في عدد من الأعمال التي عرضت خلال الأيام الأولى، إذ تحولت الأم من دور ثانوي إلى بوصلة درامية حاسمة في تفكيك الذات والعائلة والمجتمع.

"مت، حبيبي"

في فيلم "مت، حبيبي" (مسابقة) للمخرجة الاسكتلندية لين رامزي، نتابع البطلة التي تجسدها ببراعة جنيفر لورنس، وهي تنحدر تدريجاً إلى هاوية الجنون، في سرد سينمائي يتنقل بين الأزمنة ذهاباً وإياباً، كما لو أن المشاهد يتأرجح على أرجوحة. تعيش هذه المرأة في كوخ منعزل وسط غابة كثيفة، برفقة زوجها (روبرت باتينسون) وطفلهما. هي كاتبة، مدمنة جنس، تعيش حرماناً جسدياً وعاطفياً لا يشبعه زوجها، وتصارع شعوراً خانقاً بالفقد والكبت واللاجدوى. ليست أماً تقليدية ولا امرأة متصالحة مع ذاتها، بل كيان ممزق بين ما أرادته لنفسها وما وجدت نفسها فيه. يمر الفيلم بأجواء تذكرنا بأفلام الرعب التي يتصدرها الطفل كمحور رئيس، لكنه في لحظات كثيرة يخدع المتفرج بالتلميح إلى ذلك المسار قبل أن يتراجع، مما يزيد من توتره وتشويقه. وراء هذا كله ينبض سؤال الأمومة كجرح مفتوح: هذه الأم تحب ابنها، بل تكاد تراه امتداداً لذاتها، لكنها تعجز عن الشعور الفعلي تجاهه. عاطفتها مشوشة، مقطوعة النبض، كأن بينها وبينه حجاباً غير مرئي من الضياع والذنب. الفيلم يصور اكتئاب ما بعد الولادة، ذاك الذي يصيب نساء كثيرات ويظل من المسكوت عنه. لورنس في أدائها المعقد تجسد أماً حائرة، تحاول عبثاً طرد الشياطين التي تتكالب عليها من الداخل والخارج، لتغرق شيئاً فشيئاً في عالم من الفوضى والدم… والنار.

"كارافان"

يركز "كارافان" للتشيكية سوزانا كيرشنيروفا المعروض في مسابقة "نظرة ما" على العلاقة المعقدة بين أم عزباء (أنا غايسليروفا) وابنها المصاب بالتوحد، إذ تنطلق الأم في رحلة هرب معه بعد شعورها بالرفض الاجتماعي الذي يواجهه. تكشف هذه الرحلة عن روابط الأمومة المرهقة، إذ تجد الأم نفسها موزعة بين تلبية حاجات طفلها ورغباتها الذاتية. العلاقة بينهما لا تصور بوصفها مثالية، بل تتجلى فيها مشاعر الإرهاق والحب والخوف من المستقبل. الأم تسعى إلى تأمين الأمان والقبول لابنها، بينما تحاول ألا تذوب كلياً في دورها كأم. يظل الابن حاضراً كقلب التجربة، حتى حين يدفع إلى خلفية السرد. وعلى رغم أن الفيلم لا يطرح صراحة سؤال التضحية الأمومية، فيمرره بخفة، مصوراً الأم إنسانة تعيش صراعاً داخلياً صامتاً بين واجب الرعاية وحاجاتها الشخصية، مما يمنح العلاقة بينهما عمقاً يتجاوز الصورة النمطية للعلاقات الأسرية في السينما.

"قل لها إني أحبها" 

يرتكز "قل لها إني أحبها" للفرنسية رومان بورانجيه المشارك في قسم "عروض خاصة" على سؤال الأمومة الغائبة، من خلال استعادة شخصيتي رومان بورانجيه وكلمانتين أوتان لتجربتين مختلفتين في فقدان الأم. كلمانتين فقدت والدتها الممثلة دومينيك لافان في سن مبكرة، بينما عانت بورانجيه غياب والدتها منذ كانت رضيعة. هذا الغياب، الذي يحفر جرحاً صامتاً في الذاكرة، يتحول إلى محور سردي وفكري، إذ يطرح الفيلم حق الابنة في امتلاك أم، وفي الوقت نفسه يمنح الأم حق الوجود خارج صورة المرأة المضحية. فالأم الغائبة ليست شريرة ولا مثالية، بل امرأة اختارت حياة حرة، وإن تركت أثراً عاطفياً عميقاً في طفلتها. الفيلم يتأمل هذا الغياب من دون إدانة، بل بسعي صادق نحو الغفران والمصالحة. عبر الفن والتمثيل تحاول الابنة استعادة الأم والتصالح مع فقدها، في رحلة تتقاطع فيها الحاجة إلى الحب مع الألم القديم. الأم هنا ليست حضوراً، هي فكرة وظل وذاكرة تبحث عن تصالح صعب مع الحاضر.

"براهين حب" 

يتناول "براهين حب" للفرنسية أليس دوار (معروض في قسم "أسبوع النقاد")، الأمومة من زوايا عدة، تمتد من تجربة الحمل نفسها إلى العلاقة المعقدة بين الأم وابنتها. ناديا (منية شكري)، الحامل، وسيلين (إيللا رمبف)، التي ستتبنى الطفلة، تمضيان في رحلة التحضير للأمومة، لكن التوتر الحقيقي ينبثق حين تدخل والدة سيلين (نويمي لفوفسكي)، العازفة الشهيرة، إلى المشهد. هذا الحضور يعيد فتح جرح الأمومة الغائبة، إذ تكشف سيلين عن شعور قديم بالخذلان، وتدرك أن قرارها بعدم الإنجاب قد يكون رفضاً لا شعورياً لإعادة إنتاج علاقة متصدعة. يطرح الفيلم سؤالاً عميقاً: هل يمكننا أن نصبح آباء وأمهات صالحين إذا لم نصف علاقتنا بأمهاتنا؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تتجلى الإجابة في لحظة مصالحة شاعرية على خشبة المسرح، حيث تمتزج مشاعر التسلط والندم، الغياب والرغبة في التعويض. من خلال هذا الخط يقدم الفيلم نظرة إلى الأمومة كحضور وغياب، كقرار عاطفي محفوف بالتاريخ الشخصي، مؤكداً أن تكوين العائلة لا يبدأ بالولادة، بل بالمواجهة الصادقة مع الماضي، والحب غير المشروط الذي يتطلب شجاعة عاطفية.

"لتكن مشيئتك" 

في "لتكن مشيئتك" (معروض في قسم "أسبوعا صناع السينما") تعالج المخرجة البولندية جوليا كوفالسكي الأمومة من زاوية غريبة وحسية، وذلك من خلال شخصية نافو (ماريا فروبيل)، شابة تحمل قدرات غامضة تعتقد أنها ورثتها عن والدتها الراحلة. الأم، على رغم غيابها الجسدي، تحضر كطيف في وعي الابنة، مخلفة إرثاً مثقلاً بالغموض والخوف والرغبة المكبوتة. يسأل الفيلم عن معنى أن نرث عن الأم أكثر من الملامح، أن نرث عنها ألمها وطاقتها وربما لعنتها. تعيش نافو في كنف عائلة أفرادها قساة، ويبدو أن افتقادها حضور أم حنون دفعها إلى البحث عن ذاتها وسط صراعات جسدية وروحية. الإرث الأمومي هنا لا يقدم كحماية، بل كلعنة، تربك البطلة وتقودها إلى حافة الانفجار الداخلي. الفيلم يرسم صورة للأم كقوة غائبة، باهرة ومخيفة في آن، ويقترح أن الأمومة ليست دائماً مصدر أمان، بل قد تعيد تشكيل هوية الابنة ورغباتها في مواجهة عالم غير متسامح.

subtitle: 
سينمائيون وسينمائيات حملوا شخصياتهم النسائية تجليات معقدة بعيداً من الصور النمطية
publication date: 
الأحد, مايو 18, 2025 - 15:00
Read Entire Article