ARTICLE AD BOX
يكثف الاحتلال الإسرائيلي قصفه الجوي والمدفعي على مناطق شمالي قطاع غزة وقلب مدينة غزة، بوتيرة متسارعة خلال الأيام الأخيرة، تزامناً مع ما يبدو أنه تعثر في مفاوضات وقف إطلاق النار بين حركة حماس وإسرائيل. يترافق القصف الإسرائيلي المتصاعد وعمليات تدمير المنازل والأبراج السكنية المتبقية، مع أوامر إخلاء يصدرها الجيش الإسرائيلي للسكان شمالي غزة يدفعهم فيها إلى التوجه جنوباً، على غرار ما كان يجري بداية الحرب. يستهدف الاحتلال من وراء عمليات القصف والتدمير المتواصلة في تلك المنطقة، إفراغ شمالي القطاع وقلب مدينة غزة من السكان، ودفعهم إلى النزوح نحو مناطق الوسط والجنوب لتنفيذ مخطط التهجير. ومنذ 18 مارس/آذار الماضي، استأنف الجيش الإسرائيلي حرب الإبادة على القطاع، بعد تنصل حكومة بنيامين نتنياهو من اتفاق وقف إطلاق النار المبرم مع "حماس" بوساطة قطرية ومصرية وأميركية، في 19 يناير/كانون الثاني الماضي.
ويشهد القطاع منذ الثامن من مارس الماضي، مع انتهاء المرحلة الأولى من الاتفاق، حصاراً إسرائيلياً مشدداً، إذ يمنع إدخال المساعدات والمواد الغذائية الأساسية، فضلاً عن تدمير واسع للمنشآت الطبية والمستشفيات ومراكز الرعاية الأولية. وسمح خلال الأسبوعين الماضيين بدخول شاحنات مساعدات شحيحة جداً، تحت ضغوط دولية، من بينها أميركية، بالتزامن مع بدء توزيع "مؤسسة غزة الإنسانية" (إسرائيلية - أميركية مسجلة في سويسرا) توزيع مساعدات في نقاط محددة جنوبي القطاع ووسطه وفق آلية إسرائيلية - أميركية مرفوضة أممياً باعتبارها فاقدة للحياد وتشوبها مخاطر. يتأكد ذلك بعد أكثر من أسبوع، إذ استشهد العشرات برصاص الاحتلال خلال توجههم إلى نقاط توزيع هذه المساعدات.
ويبدو الاحتلال معنياً بإفراغ شمالي غزة حتى من خلال نقاط المساعدات تلك، التابعة لـ"مؤسسة غزة الإنسانية" ثلاث منها جنوباً في رفح، ونقطة في وسط القطاع، فيما لم تُدشَّن أي نقطة في مدينة غزة وشمالها. ويتحرك السكان في مناطق الشمال ومدينة غزة بمنطق النزوح الداخلي من خلال الحركة بين الأحياء دون النزوح وسطاً أو جنوباً حتى اللحظة، في ظل عدم الرغبة في ترك تلك المناطق والخشية من المصير المجهول. في الوقت ذاته، تشهد مناطق شمالاً، مثل حي التفاح والدرج، بالإضافة إلى منطقة بيت لاهيا وتل الزعتر وجباليا، قصفاً إسرائيلياً لا يتوقف، بالتزامن مع عمليات عسكرية وعمليات نسف ممنهجة. ويصعد الاحتلال باتباع سياسة "الأرض المحروقة"، إذ تدمر قواته المباني والطرق والبنية التحتية كافة قبل أن تتقدم برياً، ما يتسبب في مسح أحياء بأكملها في ما يعرف بـ"مجزرة المباني".
أهداف التدمير في شمالي غزة
يقول الباحث الفلسطيني والمختص في الشأن العسكري، رامي أبو زبيدة، إن التصعيد الإسرائيلي الميداني في مناطق شمالي غزة يأتي في إطار عملية أطلق عليها الاحتلال اسم "عربات جدعون" (منذ 18 مارس الماضي)، مضيفاً لـ"العربي الجديد"، أن هذا التصعيد "يكشف عن محاولة الاحتلال استعادة زمام المبادرة ميدانياً بعد تعثر واضح في تحقيق الأهداف المعلنة سابقاً". ويركز الاحتلال حالياً، وفق أبو زبيدة، على شمال القطاع لعدة أسباب، "أبرزها: محاولة إعادة فرض السيطرة العملياتية على مناطق سبق أن انسحب منها تحت ضغط المقاومة"، بعد اعتباره أنه "طهّرها" كما حدث في بيت حانون وحي التفاح والشجاعية. وبرأيه، فإن هذا التصعيد "يندرج أيضاً ضمن تهيئة الأرض لخطط التهجير القسري المستمرة، عبر جعل الحياة في تلك المناطق غير قابلة للسكن، سواء من خلال القصف العنيف أو تدمير البنية التحتية بالكامل". ما يجري، كما يقول أبو زبيدة، "تنفيذ متدرج لخطة عسكرية ذات طابع استراتيجي لا تستهدف فقط السيطرة الميدانية، بل تغيير البنية السكانية والجغرافية لقطاع غزة".
رامي أبو زبيدة: رسالة الاحتلال أن من لا يخرج من شمال غزة طوعاً ستُسحق بيئته المدنية
ويشير إلى أن قصف الأبراج السكنية في شمال غزة "كما حدث مع برج الكرامة وبرج أبو الحصين، لا يندرج ضمن الأهداف العسكرية التقليدية، بل يمثل رسالة سياسية وعسكرية مزدوجة". مفاد هذه الرسالة أن "من لا يخرج طوعاً، ستُسحق بيئته المدنية وسيتضرر بشدة".ولا يعلن الاحتلال رسمياً مخطط التهجير، لكنه وفق أبو زبيدة، يُنفّذه على الأرض شمالي غزة تحديداً، "عبر أدوات الضغط العسكري، والترهيب الجماعي، وتجريد السكان من المأوى، وتدمير مقومات الحياة اليومية". ويؤكد أن ما يجري "يُخلّف كوارث إنسانية متعددة المستويات، إذ استُهدفت نحو 60 بناية سكنية خلال 48 ساعة، بحسب ما أعلنه المتحدث باسم الدفاع المدني يوم السبت الماضي، ما يعني تهجير آلاف العائلات فوراً، وانهيار شبه كامل في المنظومة السكانية، مع بقاء الآلاف بلا مأوى". ويلفت إلى أن هذا القصف يهدف إلى "شطب أحياء كاملة من القدرة على احتضان السكان، ما يدعم الهدف الإسرائيلي في تقليص مساحة السيطرة التي يمكن أن توجد فيها المقاومة، ليس أمنياً فقط، بل حتى اجتماعياً وسياسياً، عبر تعميق الانفجار الشعبي والضغط الداخلي".
سلوك سياسي وآخر عسكري
من جهته، يقول الكاتب الفلسطيني والمحلل السياسي، إياد القرا، لـ"العربي الجديد"، إن الاحتلال "يعمل في اتجاهين، أولهما الضغط العسكري بكونه أداة ضغط على حركة حماس، التي يسوقها إنجازاً، وثانيهما التدمير عبر سياسة الأرض المحروقة التي ينتهجها". ويبدو، وفق القرا، أن الجيش الإسرائيلي، من خلال المناطق التي يتحرك فيها شمالي غزة، يحضّر للمرحلة التالية من عمليته العسكرية "عربات جدعون"، وذلك عبر تهيئة المناطق الشرقية لشمال القطاع، المعروفة بـ"الحزام الأمني"، وتسويتها على الأرض بشكل تام.
إياد القرا: الضغط العسكري قد يتسع ليطاول مناطق مثل مدينة خانيونس
ويشير إلى أن "الضغط قد يكون في البداية من المناطق الشمالية إلى الشمالية الغربية في القطاع والمناطق الشرقية الجنوبية، على أن تتركز شمالاً في بداية الأمر، ثم تتسع لتطاول مناطق مثل مدينة خانيونس" جنوبي القطاع. وباعتقاده فإن "قصف الاحتلال البيوت والمنازل والأبراج، وسياسة التدمير الواسعة، تستهدف بدرجة أساسية إيقاع أكبر خسائر ممكنة، والسعي لحماية قواته ميدانياً نظراً للمساحة الضيقة وتحركات الجيش المكشوفة". ما يحصل حالياً، وفق القرا، هو جزء أساسي من "عملية الضغط على المقاومة في إطار التفاوض لتحصيل أي إنجاز سياسي مرحلياً في إطار صفقة التبادل، إلى جانب السعي لتحقيق نجاحات ميدانية عسكرية ضمن الحرب".