إبادة غزّة... والحالة النفسية العربية

2 weeks ago 8
ARTICLE AD BOX

بتأثير ممّا يحدث في قطاع غزّة، تذهب نفسية الإنسان العربي في مذاهب شتَّى، تكوّنت في الغالب قبل حرب الإبادة على غزّة، لكنّها تتكشَّف وتتبلور على نحو أوضح، وأكثر حدّة، ويمكن أن تتجلَّى النفسية في اتجاهين عامَّين: اتجاه الانتماء الجماعي، واتجاه الخلاص الفردي. الأول يبدو مُتعَباً، والثاني (اللوذ بالخلاص الفردي) قد يتعزَّز، وقد يتوسَّع لينسحب على كيانات سياسية ودول عربية، في مواقف ورؤى منكفئة. هذا مع ملاحظة أن المؤثّر نفسه (بصفة عامّة) قد يكون متماثلاً، مع اختلاف نوع التأثّر والتشكّل، كما نلحظ المظلومين، بين مَن يدفعه الظلم إلى التفكير في طريقة للقضاء عليه وإزاحة المتسبّبين به وإنصاف نفسه المظلومة وكثر من أمثاله، ومَن يتشبّع حقداً ورغبةً في الثأر الشخصي في أيّ اتجاه، وكثيراً ما يكون ضدّ مظلومين من أمثاله. الأول سلوك الواعي الموضوعي، والثاني ردّة فعل المشوّه الوعي، المتمركز حول ذاته المضخّمة.

ولا يمنع الصنف الثاني التذرّع بأدوات فكرية ودينية، ما دامت لا تمسّ صُلب قراره الانزوائي الانكفائي، كأنْ يهجس باستحالة الإصلاح والتغيير، وعبثية التماثل الجماعي للتعافي، أو كأنْ يعزل نفسه ويصونها من الدائرة العامّة بطقوس تعبّدية فردانية، تحتفي بالجوانب الروحية فراراً من الفتن وإيثاراً للسلامة. السلامة الدينية بحسب تفسيره، والسلامة الشخصية، وقد تكون هي الدافع الأعمق، والأصدق تأثيراً.

الإغراق في التحليلات ومراقبة التصريحات والمبادرات يجعلنا نتعلَّق بالخلافات بين مفاوضَين لا ناقة لنا بينهما ولا جمل، هما أميركا وإسرائيل

وهنا يلوح لنا النزوع التصوّفي المُحتفى به عربيّاً منذ فترة، أو الاتجاه التعبّدي بشكل عام، بعبادات يمكن أن نصنّفها بالسهلة، وغير ذات الكُلفة، بالإكثار من الأذكار والاستغفار وغيرها. ومع أنه لا تعارض بين المذهب التعبُّدي الروحي، وبين الالتزام الجماعي، بل إن المخزون الروحي يمثّل طاقةً دافعةً للصمود والعمل، إلا أن الانتقائية المرتدّة، إما إلى استسهال وإمّا إلى فهم خاطئ، تحجب مفاعيل تلك الطاقة الروحية، وتعطّلها. هذه حالة قائمة، وهي صريحة في ترك التعالق مع الأزمات السياسية العامّة، ومنها الحرب الظالمة الطاحنة في غزّة، وثمّة حالة تبدو نقيضة، وهي حالة الاهتمام والمتابعة، لكنّها متابعة سلبية، ارتضت مجاراة المسار السياسي إخباريّاً تحليليّاً، وهو مسار دائم التعرّج والتخبّط؛ بين تأميل وتيئيس، بين بوادر انفراج لا تلبث أن تُزهقها تطوراتٌ تؤكّد استمرار الخطّ الذي خطّه قادة دولة الاحتلال، على صعيد فلسطين كلّها وقضيتها، التي تتجاوز غزّة إلى ما يسمَّى بقضايا الحلّ النهائي، كالقدس واللاجئين والحدود والموارد، وهي التي يُحدِّد مصيرُها مصيرَ فلسطين، وما ستؤول إليه.

هذا المسار الخطير لا تخدش التحليلات السياسية اتجاهه، إذ لا يحتاج المتابع العام إلى كثير دقّة ليرى بعينيه الخطّ البياني للوقائع في أرض الصراع، فعلى مدار عقود من عُمر النكبة 1948 (على أثرها أُنشِئت إسرائيل على أنقاض فلسطين وشعبها)، وحتى قبل النكبة، منذ بُدئ التأسيس لوعد بلفور، مبادرات الدول الغربية الفاعلة وذات العلاقة، من بريطانيا، متصدّرةً الجهد الغربي في استيلاد إسرائيل، إلى الولايات المتحدة، ظلّت تُخفِق (هذا على فرض أنها كانت جادّةً في تحقيق أهدافها) في منع الاستفراد الاحتلالي بالوقائع في الأرض. والسبب واضح، وهو الافتقار العربي والإسلامي إلى ما لا بدّ منه في عالم السياسة، وفي عالم الحياة، وهو القوة المادّية المكافئة، والإرادة لاستخدام تلك القوة، أو ما أمكن منها. وعليه، فإن الإغراق في التحليلات ومراقبة التصريحات والمبادرات (من دون أن يتوافر فاعلٌ في الطرف العربي، فيما أوراق "حماس" الضاغطة ليست كافية) يجعلنا نتعلَّق بالخلافات بين مفاوضَين لا ناقة لنا بينهما ولا جمل، هما أميركا وإسرائيل، نأمل أن يتفاقم الخلاف بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحكومة بنيامين نتنياهو. نتمنّى أن تتصلَّب إرادةُ ترامب لتفضي إلى ضغوط حقيقية تفرض على الزعيم الصهيوني (اليميني) الموتور القبول بخيارات صعبة تهدّد من وجهة نظره أمن إسرائيل، كما تهدّد مصيره الشخصي، ومستقبله السياسي. وفي طيّات ذلك، آمالٌ مُحبّة عن تأثيرات عزلة دولة الاحتلال دوليّاً، وأحكام قضائية تهدّد قادتها، عسكريّين وسياسيّين، وهما أمران ليسا في صالح دولة الاحتلال بلا ريب، لكنّهما ليسا بالأمرَين الحاسمَين بما يكفي لوقف الحالة الإجرامية والنزعة الاستكبارية المغرورة إسرائيليّاً.

يُخشى أننا واقعون في خديعة استراتيجية، بل وجودية، ننتظر الإجهازَ التامّ على ما تبقّى من فلسطين

وفيما لا نكاد نُعمِل سوى التحليل والمراقبة، يجري حسم الصراع بوقائع لم نعهد العودة إليها في ما مضى، فما يتحقّق يبقى، ليبدأ التفاوض من بعده: القدس، ونقل السفارة الأميركية، ضمّ الجولان، والجري الحثيث إلى ضمّ الضفة الغربية، أو المناطق المسمّاة "ج"، حتى أن الخطاب الأميركي الرسمي لم يعد يعتبرها أراضي محتلّةً، وأكّد ذلك السفير الأميركي مايك هاكابي في مناسبات ومواقف عديدة، وفرض وقائع احتلالية في قطاع غزّة مع مسار التهجير، وهكذا نخشى أننا واقعون في خديعة استراتيجية، بل وجودية، لم يسبق لها مثيل، ننتظر الإجهازَ التامّ على ما تبقّى من فلسطين، ووضع أهلها تحت أمر واقع، يفرضه عتاة اليمين المتطرّف في إسرائيل، وبرعاية ضمنية أميركية.

في الواقع، فإن هذا التعاطي مع الأحداث، والتعويل على أيّ تطوّر جزئي، والبناء عليه، مع أنه لا يقوى ولا يقترب من زخم الاتجاه المناقض غير السارّ ولا يوقفه، يمكن أن يُعدّ شكلاً من أشكال الهروب من الانخراط في دائرة الفعل، ولو كان ذلك على الأقلّ بإعادة بناء الوعي، وتصحيح حالتنا القِيَميّة والأخلاقية، بما يؤهّلنا لمواجهة تلك الهزيمة التي وقعت في النكبة (1948)، ثمّ استكملت في النكسة (1967).

وصحيح القول إنّ فلسطين هي المؤشّر إلى الحالة العربية والإسلامية، يكشف حالُها مدى الضعف في الأمّة، أو عن مدى القوة، وهي بذلك ليست حالةً قابلةً للعزل والاستراحة من همّها وأعبائها، والتفريط الرسمي العربي بها سيؤدّي تلقائيّاً إلى فهم الرسالة: إننا جاهزون لأيّ خيار يخطر ببالكم، فسقوط القدس أمام المشروع الصهيوني الغربي، يعني سقوط العواصم العربية، حتى لو تأخّر الإعلان أو تقنّع، أو تلوّنت تجليّاتُه.

Read Entire Article