"أنا ما زلت هنا": مقاربة سينمائية تواجه الإخفاء القسري

8 hours ago 2
ARTICLE AD BOX

 

عاد "أنا ما زلت هنا" (2024)، للبرازيلي والتر ساليس، إلى حقبة زمنية، قاسية ومظلمة ومشوّشة، من تاريخ البرازيل، تتمثّل بالحكم العسكري الديكتاتوري في سبعينيات القرن الـ20. حقبة عنف وتعذيب وإخفاء قسري من الجيش، الذي تفنّن في إبعاد وتعذيب كلّ من يقف في وجهه، أو يعارضه، أو لا يدعمه.

استند الفيلم إلى وثيقة تاريخية مهمّة، تتعلّق بمذكرات مارسيلو روبنز بايفا (2015)، سجّلت ماضي عائلته، بعد اكتشافه أنّ ذاكرة والدته يونيس بايفا، المحامية والحقوقية والمُدافعة الشرسة عن حقوق السكّان الأصليين في البرازيل، بدأت بالتلاشي، فسجّل المذكرات، خاصة أنّه شاهدٌ وفردٌ من العائلة التي كانت تعيش حياة مثالية، لكنّ اختفاء الوالد روبنز بايفا، المُعارض السياسي، وتصفيته من الجيش، أفسدا حياة أفرادها. لذا، اتّخذت مساراً مختلفاً: القصة ـ الحادثة التاريخية المهمّة ركّز عليها ساليس، فصنع منها فيلماً مهمّاً.

أحاط ساليس "أنا ما زلت هنا" ـ الفائز بجائزة أفضل سيناريو (موريلو هاوزر وهيتور لوريجا) في الدورة الـ81 (18 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2024) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، و"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي في النسخة الـ97 (2025) ـ بمنطلقات تاريخية وسياسية وعاطفية، أفرزت تأويلات عدّة، روّضها في سياق واحد، تجلّى في منحى عاطفي قوي ومُجد، صنع تواصلاً بين المتلقّي والفيلم. أكثر من هذا: ابتعد ساليس عن المُباشَر، الذي يحاصر العمل الفني ويزعجه، ونجح في جعل المتن هامشاً والهامش متناً، إذ إنّه لم يتعامل مع قضية الاختفاء القسري الموجع للسياسي والأب روبنز محوراً أساسياً وجوهرياً، بل تحصيل حاصل، قوّاه ودعمه بهالة كبيرة أفضت إلى نقاش جانبي، بإخضاعه تلك الفترة الزمنية (1971) إلى مساءلة قانونية وسياسية وجنائية.

 

 

هنا، يُطرح سؤال عن أسلوبه الفني، والإجابة تقول إنّه أوجد بؤرة عاطفية، انعكست بشكل واضح في تماسك أسرة بايفا (سيلتون ميلو)، عبر العلاقة القوية بزوجته يونيس (فرناندا توريس)، ذات الشخصية القوية، التي تعرف كيفية إدارة بيتها وتربية أبنائها. كما تشظّت العلاقة لتشمل بقية الأبناء، بحوارات ونقاشات وحبّ، مُظهراً أنّ للعائلة أحلاماً وطموحات مستقبلية، وأنّها تعيش حاضرها بمثالية. هذا انعكس في بيتٍ واسع وجميل، وخادمة ترعى شؤونهم، ما يُسمّى بتوفّر كلّ معطيات الحياة الكريمة والمثالية. كلّ شخصية باتت نموذجا لكلّ فرد، ما جلب التعاطف. لكنْ، مع اختفاء الأب، الذي أخذته الشرطة العسكرية، تحوّلت تلك الحياة المثالية إلى جحيم لا يُطاق، مع حزن الأم، وغياب البسمة عن وجوه الأطفال، والدخول في حالة مالية خانقة.

بعد هذا، تبدأ يونيس رحلة جديدة، إذْ وجدت نفسها مسؤولة عن أربع بنات وصبي، ولا تملك مورداً مالياً يُلبّي حاجاتهم، فانتقلت من ريو دي اينيرو (التي نُفي إليها زوجها) إلى ساو باولو، لتكون قريبةً من أهلها. هناك، بدأت دراستها مجدّداً، وخاضت نضالاً من أجل الاعتراف بقتل زوجها وتعذيبه، وهذا حصل بعد تسلّمها شهادة وفاته من السلطات، في اعتراف ضمني بالجريمة.

انعكس التعاطف مع الأسرة بنبذِ وكُره مُسبِّب حزنها وفقدانها، أي الديكتاتورية العسكرية التي أبعدت الوالد عن أطفاله. بذلك، نجح والتر ساليس في هذا المسعى، بإحياء مسار مُعارض سياسي رفض الأمر الواقع، المتمثّل بالطغمة العسكرية الحاكمة، وفي الوقت نفسه توفّق بمعالجته الإخراجية، التي جنّبته الخطابية.

"أنا ما زلت هنا" فيلمٌ سينمائي مُهمّ، صُنع جيّداً، وانعكس هذا الجهد في كلّ تفصيل منه، خاصة باختيار فضاءاته: عمران وديكور وإكسسوارات حاكت الفترة الزمنية المستهدفة، ما قدّم جرعة كبيرة لمصداقيته. كما أحسن في إدارة الممثلين، خاصة الأطفال، وجعلهم عائلة متماسكة ومُقنعة ومتأثّرة، وتعاطيها مع الحدث مُقنع. كما جعلهم يتحرّكون بكلّ حرية في مساحات العرض، ما صنع حيوية وانسيابة وروحاً مرحة في الوقت نفسه.

بذلك، غطّى ساليس جوانب مُهمّة عدّة، رغم هناتٍ موجودة في النصف الثاني، إذْ أصبح الحدث يسير ببطء شديد، على عكس النصف الأول، وهذا ربما يعود إلى طبيعة الحدث نفسه، الذي فرض على ساليس وتيرة مُعيّنة، تعكس رمادية القصة ومأسوية مُصاب الأسرة.

Read Entire Article