أكتب لأصارح قلبي

2 weeks ago 7
ARTICLE AD BOX

لحظة قصيرة تظنّها انقضت، فإذا بها تنهض من ركام الذاكرة مثل وحش خفيف الخطى، لا يُصدر صوتاً، لكنّه يعرف تماماً أين يوجع. هكذا يعود لي ذاك الشعور، يتسلّل إلى قلبي في هدوء، كلما تذكّرتُ أخطائي القديمة. وأتساءل: هل هو ندمٌ فعلاً؟ أم أن ما أعيشه شيءٌ آخر، أقسى وأعمق وأكثر خجلاً؟ هل هو تأنيب ضمير أم هو شعور بالحسرة على كبرياءٍ ظننتُها يوماً حصني الآمن، فإذا بها جدار عازل بيني وبين الآخرين؟ بيني وبين قلبي نفسه؟

لا أكتب الآن لأطلب غفراناً من أحد. ولا لأبكي على أطلال ماضٍ صنعته بيدي. بل أكتب لأنني سئمتُ الهروب من مرآتي، والتظاهر بأنني على حقّ، فقط.. لأنني لم أشأ أن أبدو ضعيفةً ومهزومةً ومنكسرةً.

كنتُ ألبس الكبرياء درعاً كلّما واجهتُ الحقيقة، وأحتمي به حين تعجز كلماتي عن المواجهة. وكم من مرّة أقنعت نفسي أن الزمن كفيل بأن يُصلح ما انكسر، وأن الذين أحبّوني سيفهمون، حتى من دون أن أتكلم! لكنّي كنت مخطئةً.. وكانوا يرحلون.

المشكلة ليست في الخطأ ذاته، فكلّنا نخطئ، بل في الصمت الذي يليه، وفي الكلمات التي ابتلعتها مراراً كي لا أبدو هشّةً، وفي الرسائل التي كتبتها ولم أرسلها، وفي المكالمات التي محوتُ رقمها قبل أن أضغط على زرّ الاتصال، وفي كبرياء لم تُبقِ لي سوى قناعٍ متماسكٍ من الخارج، هشٍّ جدّاً من الداخل.

صرت أراقب حياتي كما يراقب غريبٌ فيلماً لا يستطيع إيقافه. أتذكّر مشهداً بعد آخر، وأضع كلّ لحظة في الميزان؛ ماذا لو اعتذرتُ وقتها؟ لو واجهت على الأقلّ؟ لو تخلّيت عن أفكاري؟ لو أقدمت بدل الهروب؟... أسئلة لا تنتهي، لكنّها جميعاً تُفضي إلى الجواب ذاته؛ كنت أعرف، لكنني لم أفعل. وها أنا الآن أحمل ذلك العبء الثقيل، لا لأنني ندمتُ، بل لأنني أيقنتُ أن ما كنت أظنّه قوةً لم يكن سوى هروبٍ مستتر.

ولماذا الآن؟ لماذا أكتب هذا الكلام بعد هذا الوقت كلّه؟... أكتب لأنني لا أريد أن أخسر ما تبقّى مني، ولأنني اكتشفت أن الاعتراف ليس ضعفاً، بل شجاعةً، ولأقول لنفسي أولاً، ولمن يشبهونني ثانياً، إن الكبرياء لا ترمّم شيئاً، بل تزيد من هشاشة ما نحاول حمايته أحياناً.

أكتب إذاً لأُصارح قلبي، الذي ظلّ يحذّرني دائماً، لكنني كنت أتجاهله، ولأعترف أنني أخطأت، لا مرّة ولا مرّتَين، بل كثيراً. وكم من مرّة رأيت دموعهم الصادقةَ ولم أفتح قلبي. كم مرّة انتظرت المستحيل منهم، فقط لأبقى أنا "صاحبة الموقف". لكن ما قيمة الموقف إذا خسرناهم؟

هناك خيط رفيع يفصل بين الكرامة والكبرياء، وأنا خلطت بينهما طويلاً. خلطت بين أن أحفظ نفسي وأن أحبسها، بين أن أحترم ذاتي وأن أُقنِعها بأنها دوماً على صواب. وكلّما طال الزمن، صار الخيط أوهن، حتى وجدتني واقفةً في زاوية من الحياة، محاطةً بجدران من صنع يدي.

نعم، هو ندم... لكنّه ندم من نوع خاص، يوقظ فيَّ شيئاً جديداً بعدما تعبت من ادّعاء القوة، ويعلّمني أن ألين، لا لأنني ضعيفة، بل لأن القلب لا يعيش في القسوة. ندم يجعلني أمدّ يدي إلى نفسي أولاً، علّي أن أُصالحها قبل أن أُصالحهم.

ربّما لا تعود الأمور كما كانت. لكن ما أعرفه أنني لن أُكمل الطريق كما كنت، لأن الكبرياء التي كنت أظنّها صديقتي، كانت أول من خذلني عندما بلغت الحافّة.. وأيّ حافة!

Read Entire Article