أطفال حرب سوريا... جيل بلا قيود وأوراق ثبوتية وتعليم

6 hours ago 2
ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">خلال الحرب السورية تعرّض النظام الاجتماعي لأزمات متتالية ألقت بثقلها على الجيل الجديد من الأطفال (اندبندنت عربية)</p>

خلال عقد ونصف العقد من الحرب الضارية التي عصفت بسوريا وحتى سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، أواخر العام الماضي، نشأ جيل من الأطفال الذين لم يتمكنوا من التعرف على الدولة الرسمية بصورتها الحقيقية والمؤسساتية الجامعة إلا من خلال تعسفها القمعي وحواجزها العسكرية المخيفة وأفرع أمنها.

أولئك الأطفال تربوا في بيئة بعيدة من الحال الحضرية والمدنية التي يمثلها مفهوم الدولة الحداثية، فكانوا يتوزعون ما بين مناطق تسيطر عليها فصائل معارضة وميليشيات مناوئة وجماعات إرهابية كـ"داعش" على سبيل المثال، تلك العوامل في التنشئة حرمتهم من الخدمات الأساسية التي هي حق مشروع لهم ضمن مفاهيم المواطنة، مثل التعليم والضمان الاجتماعي والرعاية الصحية وشهادة الميلاد والهويات الشخصية، وأفضى الغياب المنهجي للحاجات الأساسية إلى خلق جيل مشوش لا يحظى إلا بالحد الأدنى من الخدمات، مما خلق وضعاً اجتماعياً معقداً يتعلق بهم ويضع معهم الدولة السورية الجديدة والمجتمع الدولي أمام مهام صعبة في إطار إعادة دمجهم في الحياة المدنية والاجتماعية العامة.

قسوة الحرمان

خلال الحرب السورية تعرض النظام الاجتماعي العام لأزمات متتالية وخضات عنيفة، ألقت بثقلها على الجيل الجديد من الأطفال، أولئك الذين ولدوا في الحرب أو قبلها بقليل، وأكثرهم تأثراً من وجدوا أنفسهم في مناطق المعارضة السابقة، حيث غابت المؤسسات الرسمية التي يفترض أن توفر لهم مقومات الحياة الضرورية وعلى رأسها التعليم والانتظام في المجتمع المحلي الشامل، هذا الجيل وجد نفسه بلا بطاقة شخصية، ولا شهادة ميلاد، ولا ضمان صحي، ولا تعليم جيد ومنظم.

جيل بلا أوراق وتعليم

تقدر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن أكثر من مليون طفل سوري ولدوا كلاجئين في دول الشتات، فضلاً عن الذين ولدوا في مخيمات الداخل، كان هذا الإحصاء حتى عام 2022، ومن ثم لم يحصلوا على شهادات ميلاد وعانوا الفقر والتهميش والجوع وانتهاكات بالجملة، وترافقت أوضاع هؤلاء الأطفال مع دمار معظم المنشآت التعليمية في المناطق التي كانت تسيطر عليها قوى المعارضة لا سيما في الشمال الغربي من سوريا، إدلب وريف حلب، فنشأت مدارس غير رسمية لا تتبع لحكومة دمشق، وإما كانت بإشراف الفصائل نفسها أو بدعم من منظمات إغاثية، وبالحالين لم ترق لتقدم تعليماً جيداً.

وأشارت منظمة "يونيسيف" في تقرير صادر عنها عام 2019 إلى أن نصف الأطفال ما بين سن الخامسة والـ17 لم يتلقوا تعليماً خلال الحرب، أي إن هناك 2.1 مليون طفل بالداخل و700 ألف طفل لاجئين بدول الجوار محرومون من التعليم، كما أن 1.3 مليون آخرين عرضة للتسرب من المدارس أو عدم تلقيهم التعليم.

حلول مقترحة

رأى المتخصص التربوي إياد حسون أن الأطفال السوريين دفعوا أثماناً باهظة خلال الحرب السورية، لافتاً إلى بعض الحلول التي يجب تنفيذها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكلها تتعلق بمحاولة إعادة دمجهم في المجتمع السوري والحياة العامة من جديد، "وعلى رأس تلك الحلول المسارعة إلى البحث في موضوع السجل المدني عبر قيام حكومة دمشق بإطلاق برامج متسارعة لتسجيل الأطفال الذين ولدوا في المخيمات داخلاً وخارجاً، وأن تقوم بتقديم شهادات ميلاد وإثبات شخصية لهم بما يضمن حقهم في الوجود الفعال والقانوني"، وأضاف "هناك خطوات أخرى يجب العمل عليها سريعاً كإعادة بناء النظام التعليمي من خلال توفير دعم مطلق وغير متناه كأولوية رئيسة للمدارس المدمرة في مناطق الحرب، مع توفير مناهج دراسية موحدة وحديثة، وفي بعض الحالات لا بأس باعتماد التعليم من بعد، كما ينبغي الاعتناء بالجانب الصحي بتضافر جهود الحكومة مع المنظمات الإنسانية لترميم القطاع الصحي". وشدد المتخصص التربوي على أن تلك الجهود يجب أن تترافق مع برامج دعم أسري للعائلات المتضررة مباشرة من الحرب، مع تأمين رعاية الأيتام ومكتومي القيد "أولئك الصغار وبعضهم صار في سن الشباب اليوم، يجب عدم النظر إليهم على أنهم ضحايا حرب وحسب، بل يجب الانتباه جيداً إلى أنهم مستقبل سوريا الذي يجب التركيز عليه في مرحلة البناء".

الحاجة إلى تجاوز الصدمات

أكدت المتخصصة في علم التحليل النفسي ليلى سمعان أن مراعاة الجانب النفسي لهؤلاء الأطفال يجب أن يكون على رأس سلم الاهتمامات والأولويات في مرحلة ما بعد سقوط النظام، إذ إن معظمهم يعاني مشكلات صحية أو نفسية نتيجة ظروف قاسية وغير إنسانية نشأوا فيها مرغمين، لا سيما غياب الرعاية الصحية بما تنطوي عليه من صحة نفسية في ظل مرارة ما قاسوه من تشرد وعذاب وقصف وموت، مما شكل لدى قسم كبير منهم صدمات نفسية ظهرت أو ستظهر على شكل سلوكيات لاحقة، خصوصاً نوبات الهلع، وعدم القدرة على التعامل مع الظروف بمنطقية، والانفصال عن الواقع أحياناً، والشرود الذهني والضبابية العقلية، وغيرها من التداعيات.

أضافت سمعان "الدولة السورية الحديثة تبذل مجهوداً جباراً، وتحاول أن تقدم حلولاً داخلية معقولة، لكن ملف ملايين اللاجئين هو أخطر ما سيعترضها، وأخص بالحديث لاجئي الخيام في الداخل والخارج، لذا يجب المسارعة لبناء قطاع صحي متكامل يقدم خدمات على امتداد الخريطة، يراعى، على وجه الخصوص، مسائل الرعاية الأولية، والتطعيمات، والطب النفسي، وقد يكون الأخير أهمها"، وتابعت "قد يكون الجانب النفسي الأهم لأنه يلعب دوراً جوهرياً في مرحلة محاولة إعادة الدمج، لذا نحن في حاجة إلى مراكز متخصصة للتأهيل النفسي يشرف عليها أطباء ومتخصصون نفسيون ومحللو سلوك مهمتهم توعية وإرشاد الأطفال والمراهقين حول كيفية التعامل مع حياة ما بعد الحرب، وتجنيبهم إمكانية تضاعف الأثر النفسي للصدمات التي خبروها، ومحاولة تجنيبهم فراغ القلق والاكتئاب، وحتى إتمام المشروع علينا أن ندخل هنا إلى المخيمات لا أن ننتظر قدوم الجميع".

دور مجتمعي متكامل

أطفال الحرب كبروا، ولهؤلاء يجب أن تولى عناية إضافية على صعيد خلق فرص العمل لهم وإشراكهم في الحياة الاجتماعية، لكن المعاناة هي ذاتها في ظل غياب التعليم والمهارات المهنية والعلمية والحرفية.

واقترح زيدان مصطفى الذي كان يعمل مع مؤسسات أوروبية إنسانية خلال الحرب، أن يتم إطلاق برامج تدريب مهني لهذه الفئة، ومن خلالها تتعلم المهارات الأساسية واللازمة لسوق العمل، كالحرف اليدوية، والصناعات المنزلية، والانتظام في المشاريع متناهية الصغر، ومواكبة التكنولوجية ولو بصورة مبسطة، إضافة لما يتعلق بشؤون البناء والإعمار، على أن يترافق ذلك مع منح قروض ميسرة صغيرة يكون الحصول عليها في منتهى السهولة، أو يمكن اللجوء إلى الدعم الحكومي المباشر للمشاريع الصغيرة، كزراعة الفطر المنزلي مثلاً. وأضاف، "الدور هنا ليس فقط على عاتق الحكومة أو ضحايا الحرب، بل على المجتمع بأكمله أن يتداعى لمساعدتهم في الانتظام بمختلف الجوانب العلمية والثقافية والرياضية والعمرانية والتطوعية والسياسية والوطنية، مما سيسهم في إعادة بناء جسور الثقة داخل المجتمع الواحد".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المواجهة الحقيقية

رأى الحقوقي ناظم الأخرس أن مجرد طرح الحلول ليس سبيلاً كافياً للعلاج، فالأزمة شاملة ومعممة، وهي تواجه صعوبات لوجيستية تتطلب وقتاً طويلاً لمعالجتها، مبيناً أن الصدمات الموروثة طوال 14 عاماً من الحرب لا يمكن محوها إلا بإعادة البناء من الصفر. ولفت الحقوقي إلى أبرز التحديات التي تواجه الاندماج المجتمعي من بينها "غياب الهوية القانونية حتى الآن، مما يحرمهم من حقهم في كونهم مواطنين سوريين، ومن ثم حرمانهم من حقوق المواطنة وما ينسحب عليها من الحياة السياسية والانتخابية والأمنية وتكوين العائلات وفرص العمل والسفر والاستثمار، وكذلك فجوة أعوام طويلة من انعدام التعليم المرافق لفقدان اكتساب المهارات الحيوية الأساسية في الحياة، فالتعليم يبدأ من سن السابعة، ويجب الأخذ بالاعتبار الفجوة الثقافية والاجتماعية الهائلة بينهم وبين أقرانهم، وما يرافقها من اختلاف في السلوكيات والتعاطي وطرق التفكير".

"أشبال الخلافة"

نشأ آلاف أو عشرات آلاف الأطفال ضمن مناطق تخضع لسيطرة تنظيم "داعش" في سوريا والعراق، وقد كانوا الأكثر تأثراً بمحيطهم العميق مما ترك تداعيات واضحة على أسلوب تفكيرهم، ويتبدى ذلك بوضوح من مقابلات أجريت مع نساء وأطفال في مخيمات احتجاز أسر "داعش" شمال شرقي سوريا لدى "قوات سوريا الديمقراطية" "قسد". وهذه البيئة اتسمت بالعنف والتطرف والتدمير الممنهج للفكر الفردي والجماعي، لكن بطبيعة الحال، قد لا يكون جميع الأطفال هناك تأثروا تماماً بالفكر الإرهابي.

معلوم أن "داعش" عمل على تدريس الأطفال في مناطقه، ولكن علمهم في مدارس شرعية متشددة للغاية وما يريد تعليمهم إياه، وكان الجانب العملي يطغى في تدريبهم على استخدام السلاح مطلقاً على أولئك الأطفال لقب "أشبال الخلافة"، وفعلياً استخدم كثيرين منهم في معاركه.

في هذه البيئة غابت مفاهيم العدل والمدنية والتعددية والعيش المشترك، وتركز التعليم على القتال وزراعة الأفكار التكفيرية المتطرفة.

الغربة الداخلية

انسحب الأمر على مناطق أخرى سيطرت عليها جماعات متشددة فتم تدريب الأطفال على السلاح، وجرى زج كثيرين منهم في سياق المعارك وهم في أعمار المراهقة، هؤلاء وحدهم يشكلون تهديداً وتحدياً كبيراً للغاية على مستويين: الدولة القائمة، والمجتمع الممزق. وهؤلاء الفتية تسللوا مع التحرير إلى المدن، تجاوز معظمهم السن القانونية، وصارت إمكانية وجودهم ضمن أجهزة الدولة العسكرية والأمنية متاحة في سياق الإعداد السريع من دون امتلاك ترف الوقت للبحث في الخلفيات الماضية لكل نصر على حدة، وفي مطلق الأحوال، تظهر التداعيات واضحة في الشارع السوري الذي لم يعد يجيد التعامل بين مكوناته، ولا بيئاته، ولا محافظاته، إذ يبدو القادم من الجنوب إلى الشمال غريباً بسلوكه ومعتقداته، والأمر ذاته للقادم من الشرق إلى الساحل، أو القادم من إدلب إلى وسط البلاد.

subtitle: 
تربوا في بيئة بعيدة من الحال الحضرية والمدنية التي يمثلها مفهوم الدولة الحداثية
publication date: 
الاثنين, مايو 19, 2025 - 09:15
Read Entire Article