أبعد من خوسيه موخيكا

2 weeks ago 6
ARTICLE AD BOX

غيّب الموت الأسبوع الماضي رئيس أوروغواي الأسبق، وأحد رموز النضال الثوري والإصلاح الاجتماعي في أميركا اللاتينية، خوسيه موخيكا عن 89 عاماً. وقد كانت لافتةً بساطةُ مراسم دفنه، فلا بهرجةَ ولا فائضَ في البروتوكول الذي عادة ما يُتقيَّد به في مراسم دفن رؤساء الدول والحكومات.

بدأ موخيكا حياته السياسية مناضلاً في الحزب الوطني في 1956، ثمّ سرعان ما انفصل عنه ليلتحق بحزب الوحدة الشعبية (اليساري) في 1962، قبل أن ينضمّ إلى حركة التحرير الوطني (توباماروس) اليسارية المسلّحة في 1964. تعرّض للاعتقال والتعذيب أكثر من مرّة في سبعينيّات القرن الماضي، ثم أُفرج عنه بعفو رئاسي عامٍّ مع معتقلين سياسيين آخرين، ضمن مخاض التحوّل الديمقراطي الذي انخرطت فيه أوروغواي منذ 1985. بعدها سيقطع مع النضال الثوري المسلّح، ويتبنّى خيار النضال السلمي الديمقراطي، فانتُخب نائباً في البرلمان (1994). وفي 2005 عُيّن وزيراً للزراعة والثروة الحيوانية والصيد البحري، قبل أن يترشّح إلى الانتخابات الرئاسية ويفوز بها في 2010.

خلال ولايته الرئاسية (2010 - 2015)، سيقدّم موخيكا نموذجاً يكاد يكون غير مسبوق في العمل السياسي، تبدّى في تقشّفه المفرط في السلطة، إذ رفض الإقامة في القصر الرئاسي، مفضّلاً البقاء في مزرعته الصغيرة في أطراف العاصمة مونتفيديـو، واحتفظ بسيارته القديمة من طراز فولكسفاغن، وتبرّع بجزء كبير من راتبه للفقراء، مُخلخلاً بذلك قواعد البنية التي تحكم السلطة السياسية في العالم المعاصر. كسر موخيكا الصورة النمطية لسلوك رؤساء الدول والحكومات، الذين ما أن يُنتخبوا (هذا إذا انتُخبوا ديمقراطياً)، حتى ينتقلوا إلى الإقامة في قصور رئاسية محاطة بكلّ مظاهر الفخامة والبذخ، من حراسة ونمط حياة مترف ومزايا كثيرة، تكون في الغالب مؤطّرةً بتشريعات ولوائح. كان يرى أن تولّي السلطة ينبغي أن يكون مشروطاً بخدمة الناس والسهر على مصالحهم. وفي الوسع القول إنه نجح إبّان ولايته الرئاسية في إعادة تحديد معنى السياسة، باعتبارها وسيلةً لإعادة توزيع الثروات وتحقيق العدالة الاجتماعية، بتوسيع قاعدة المستفيدين من السياسات الاجتماعية، وفي رأسها التعليم والصحّة والرعاية الاجتماعية.

كان موخيكا معارضاً صلباً للرأسمالية المتوحّشة، التي رأى في تغولّها تهديداً لاستقرار المجتمعات وأمنها. واعتبر أن وضع نظام اقتصادي دولي أكثر عدلاً وحده الكفيل بتجنيبها الانزلاق إلى صراعات هي في غنىً عنها. كان يدرك أن استمرار صعود هذه الرأسمالية سيفضي في النهاية إلى تدجين السلطة السياسية، بمختلف مؤسّساتها من أحزاب ومجالس نيابية وقضاء وغيرها، أولاً بانفصالها عن مجتمعاتها وما تفرزه دينامياتُها من أسئلة وقضايا، وثانياً بربطها بمراكز القوة الناعمة من إعلام ودوائر مالٍ وأعمالٍ عابرة للحدود، أضحت مصدرَ السلطة، بينما لا يعمل رؤساء الدول والحكومات ونواب البرلمانات القادمون من الأحزاب والتنظيمات السياسية التقليدية إلا على تنفيذ ما تقرّره مراكز القوة هاته.

ينتمي موخيكا إلى تلك الطينة الفريدة من الساسة والحكام، أو بالأحرى البشر، الذين يأتون إلى السلطة وهم زاهدون في بريقها، تقودهم في ذلك قناعات فكرية وأخلاقية ودينية مثالية، ترى في هذه السلطة، وما يستتبعها من مظاهر الجاه والترف والنفوذ والسطوة، انحرافاً عن مسارها الذي يُفترض أن يبقى مشروطاً بخدمة الناس وتلبية احتياجاتهم.

لا تقتصر هذه الطينة النادرة من البشر على ثقافة دون أخرى. ففي تاريخنا العربي، قدّم الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز نموذجاً حيّاً ومضيئاً في هذا الصدد، فقد أحدث بعدله وزهده في السلطة انقلاباً كبيراً داخل البيت الأموي، فألّب عليه أمراء بني أمية الذين رأوا في سياسته تهديداً لامتيازاتهم، ليموت (مسموماً؟) بعدما أمضى في الحكم سنتَين (99 -101)، كانتا كافيتَين لتخليده واحداً من أعدل حكّام التاريخ، وأكثرهم نزاهةً وعفّةً.

تعيد مثاليةُ موخيكا، وتقشّفُه وزهدُه في السلطة، إلى الواجهة معضلةَ السلطة التي أخفقت السياسة المعاصرة في حلّ تناقضاتها، فحتى الديمقراطية، بما توفره من آليات للمحاسبة، لم تنجح في فكّ الارتباط بين مراكز القوة داخل المجتمع، والسلطة بما هي مؤسّسات يُفترض أن تكون في خدمة المواطنين.

Read Entire Article