The Pitt... دراما طبية في عصر ما بعد كوفيد-19

10 hours ago 2
ARTICLE AD BOX

يحوز نوع المسلسلات العملياتية Procedural ركناً أثيراً من الإنتاج التلفزيوني. ينتمي هذا النوع إلى أسلوب المتصل-المنفصل، بثبات الكادر الطبّي أو التحقيقي أو سواه، وتناوله قضيّةً في كلّ حلقةٍ أو موسم. يغذّي هذا النوع طريقة المشاهدة التي لا تشترط المتابعة الحثيثة والمتواصلة، فهي تضمن للجمهور ساعةً تلفزيونية، تحمل ثيماتٍ وتقنيات روي معتادة، يتناصّ فيها الفريق الثابت -مهما كان تخصّصه- مع ضيوف الحلقة، فينجم عن ذلك تطوّرٌ متمهّلٌ للشخصيّات وتصل القضية (Case) إلى خاتمتها. 
بالتأكيد، يمكن تفكيك تقنيات الكتابة واستخلاص النمط، وتجدر الإشارة إلى أن الألق الذي يرافق كلّ تجربةٍ جديدة، يخبو مع استمرار العرض وتفاوت البراعة في صياغة الحلقات وترتيب عناصرها، كالحبكة وتشابك خطوط الشخصيات الرئيسية وتوافقها مع القضية المطروحة. أيضاً، للأنواع العامّة مواسمٌ، حتى حين تخبو، يستمر إنتاج المزيد منها لو انصرف الاهتمام إلى نوعٍ آخر، وتراجعت متابعتها. بهذا، يتحوّل تحدّي صنّاعها لأن لا تكون مسلسل جريمةٍ آخر أو مجرّد عالمٍ آبوكاليبسي لا يحمل إضافة.
مضى أكثر من عقدٍ على تسيّد مسلسلٍ طبّي للاهتمام والمتابعة. مع ذلك، لا ينضب الإنتاج، كلّ ما في المشفى استُنزف؛ إنقاذ المرضى وتعقيدات شخصيّة الطبيب والعلاقات الرومانسية، وهذه حالة The Pitt الذي قدّمته خدمة Max للبث التدفقي خلال الأشهر الفائتة، ذراع HBO في عالم الإنتاج الأصليّ خارج شاشة التلفزيون. ويُبثّ المسلسل، في العالم العربي، على منصّة OSN+. 
بدأ تطوير The Pitt من الكادر الإنتاجي والكتابي الذي اجتمع في مسلسل ER؛ أحد أطول المسلسلات الطبيّة، لكن تعسّر الحصول على حقوق الملكية حال دون أن يكون سلفاً مرتبطاً بالمسلسل الطبّي الشهير. سلك المبتكرون خيار عرض الأحداث ضمن الوقت الفعلي، فبدلاً من أن يكون مسلسلاً يركّز على غرفة الطوارئ، تحوّل ليغطي مناوبةً واحدة في يومٍ واحد، وأتت حلقاته الـ15 مقسّمةً على رأس الساعة.
يضرّ الوصف بـ The Pitt؛ فيبدو خليطاً بين عملين كلاسيكيين، هما ER و24، لكنّ ما قدّمه العمل بتوالي حلقاته، وزيادة رقعة جمهوره أسبوعاً بعد آخر، وصل به لتجاوز نقاش الأصالة، وامتلك ما يكفي من الجدّية ليكون علامةً لمسلسل طبّي في عصر ما بعد جائحة كوفيد-19. 
أمّا على الصعيد القانوني، فقد أجازت محكمة لوس أنجليس الدعوى التي رفعتها مؤسسة كريتشتون لاتهام المسلسل باستخدامٍ غير مشروع لـER. يرى منتجو The Pitt الأمر هزليّاً، بينما بالنسبة إلى بطل المسلسل الممثل نواه وايلي (شارك في الإنتاج أيضاً) الذي يجسّد شخصية الطبيب مايكل روبينافيتش؛ المشرف على غرفة الطوارئ، فيعتبر المسلسل استمراراً روحيّاً لـ ER، ولا يخفي حزنه وإحباطه من المسار القضائي بعد فشل الشراكة. حضر وايلي في تسعة مواسم من ER، متدرّجاً من طبيب جديد تتقدّم مسيرته في المشفى وهو يحوز الرقم القياسي لأطول مدّة أداء شخصيّة طبيب على الشاشة. وعلى أيّة حال، يجري العمل حالياً على تطوير الموسم الثاني بعد نجاح التجربة.
يستعرض The Pitt المناوبة الأولى لحفنة من الأطبّاء الجدد في قسم الطوارئ لمشفى الاستجابة في مدينة بيتسبورغ. يتذمّر أطبّاء المشفى من وضعه الخدمي وقدراته المتواضعة باختصار اسمه للأحرف الأولى بما يفيد الحفرة أو القاع، وهو عنوان المسلسل. يحضر إلى جانب المستجدّين مجموعة من الأطباء الخبراء وكادرٌ تمريضيّ، ويحضر كذلك التنوع الإثني من دون إرغام، ويتبدّى التميّيز في حالات المرضى وتفاعلات الأطبّاء على حدّ سواء، من دون طغيان التعليق الاجتماعي على طبيعة الحلقات التي تتداعى أحداثها بتأثير الإجراءات العلاجيّة المتّبعة.
يحيل صنّاع المسلسل نجاحه إلى تحدّيه الجمهور وعدم اتّباعه أسلوب التلقيم والشرح المستفيض للأحداث والشخصيّات. يخلو The Pitt من التقديم، ويغمر المشاهد بتجربة متابعةٍ مزدحمة. كثيرة هي المعلومات، وكثيفة الذروات مع لمسات كوميدية لا تخلو أي بيئة عمل منها. يقدّم المسلسل للجمهور محاكاةً للجانب الشخصي للعاملين في قطّاع الطوارئ، إذ تتراجع أهمّية الطبيب وشجونه أو المريض وأفكاره إلّا عندما تؤثّر على الوضع الصحّي. كذلك المتفرج، إذ يرزح تحت وطأة الحدث ويتحرّى المَخرج أكثر من اهتمامه بما يعني تأويل الحدث بالنسبة للطبيب أو المريض.
ينثر The Pitt عبر الأحاديث القصيرة والمواقف السريعة للأطبّاء ملامح لشخصياتهم والحمل العاطفي والذهني لكلّ منهم. تنحو الكتابة إلى المألوف ما يسهّل للجمهور استقراء الشخصيّة لو لم يحفظ اسمها. لكن معظم الأحداث تجري بما يخفي هذه الجوانب، ليأتي التفسير لاحقاً ضمن سباقٍ محتدم على الكفاءة المثاليّة في عالم لا يتسع للأخطاء.
يوضع هذا الجوع لتحقيق الكفاءة في الساعات الثلاث الأخيرة من المسلسل. تمتد المناوبة قسريّاً نتيجة لحدث إطلاق نار في حفل موسيقي. يترافق الاستنفار الشديد وعجز القدرات للمستشفى مع الروتين المعتاد والأدوار البروتوكوليّة التي تعيد هيكلة المسلسل وتمنحه أشدّ مشاهده قسوةً وتوتراً.


تمثّل وثوقية The Pitt للواقع الطبّي إحدى أهمّ ركائزه، ليتفوق على ما يحيطه من أعمال طبية. يبرز هنا عاملٌ آخر، فلم يكن معتاداً في السابق لمسلسل طبّي أن يحمل مسؤولية شرح الرأي الطبّي الاحترافي، لكن الحال اختلف بعد جائحة كوفيد-19 ونقاشات التطعيم وانتشار التشخيص الذي يعتمد الإنترنت في السنوات الأخيرة.

يخطو العمل الدرامي بشجاعة في هذا المجال، ويبقى ضمن نطاقٍ طبّي بعيداً عن أي وعظٍ سياسي واجتماعي. يُمكن القول إن The Pitt يستعرض آثار الجائحة على هيكل النظام الطبّي، والتروما التي ألمّت بالعاملين في قطّاع الصحة ممن نجوا، ورحلة تعافيهم من الخسائر التي شهدوها لزملاء وأقارب.
تشي الأخبار عن الموسم القادم باختيار يوم الرابع من يوليو/تموز (عيد الاستقلال في الولايات المتحدة الأميركية) فضاءً زمنيّاً للمناوبة الطبيّة المقبلة، بما يوحي بتقصّد القيّمين على العمل اختيار أشدّ اللحظات صعوبةً وأقل الإمكانات ضمن المجال الطبّي، ويتوقع أن يستمر نهج الإصدار الأسبوعي للحلقات والابتعاد عن الطرح الكامل للموسم دفعة واحدة.

Read Entire Article