9 نعوش صغيرة... الطبيبة آلاء النجار تودّع أطفالها الشهداء

3 hours ago 4
ARTICLE AD BOX

فقدت الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار وزوجها الطبيب حمدي النجار تسعة من أطفالهما في يوم واحد، في قصف إسرائيلي دمر منزل العائلة، وفي فاجعة لا يمكن أن يتحملها قلب أم.

كانت الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار (36 سنة) على رأس عملها في قسم الأطفال بمجمع ناصر الطبي في مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، حينما نقلت لها زميلتها خبراً مفاده أن هناك قصفاً مقابل "محطة فارس" بمنطقة قيزان النجار. تركت كل شيء، ولم تنتظر قدوم سيارات الإسعاف، وتوجهت إلى المكان الذي يضم بيتها المكون من أربع طبقات، وأسفله مجمع طبي، فوجدت المبنى كومة من الركام.
بينما تتابع الأم الثكلى، أخرجت طواقم الإنقاذ والإسعاف جثامين أطفالها ركان (10 سنوات)، وإيف (9 سنوات)، وجبران (8 سنوات)، وسدين (7 سنوات)، ولقمان (6 سنوات)، ورسلان (5 سنوات)، وريفال (4 سنوات)، ثم جثمان ابنها الأكبر يحيى (12 سنة)، وطفلتها الرضيعة سيدرا (ستة أشهر). 
عايشت النجار لحظات انتشال أطفالها من تحت ركام منزلها، ووقفت لتودعهم واحداً تلو الآخر، إذ لم يكونوا بذات الملامح التي تركتهم عليها قبل التوجه إلى عملها في الصباح. شوهت الصواريخ ملامحهم، شعرهم الأشقر ووجوههم البريئة التي يزينها عينان زرقاوان، وقطع أجسادهم الصغيرة في لحظات.
في الخارج أنقذت الطواقم طفلها آدم (11 سنة) وهو الناجي الوحيد من بين إخوته، مع والده الطبيب حمدي النجار، واللذان قذفتهما شدة الانفجار إلى الشارع، فكتب لهما النجاة.
في مشرحة الجثامين، فردت الطبيبة الفلسطينية ذراعيها لتضم أطفالها الذين غطتهم الأكفان. كانت قبل ذلك تبكي حين رؤية أي طفل شهيد، لكنها الآن تقف أمام فاجعة تتجرع قسوتها وحدها، ويحمل قلبها ثقل رحيل جماعي، خصوصاً أنها لم تستطع إلقاء نظرة الوداع على اثنين من أطفالها نتيجة تحولهما إلى أشلاء.
في غرفة داخل مجمع ناصر الطبي، تجلس شقيقتها آيات النجار (33 سنة) كي ترعى ابن شقيقتها الطفل المصاب آدم، بينما تمكث شقيقتها آلاء أمام قسم العناية المكثفة لتراقب تطورات الحالة الصحية لزوجها. 

كان أطفال عائلة النجار يريدون أن يصيروا أطباء لكنهم صاروا شهداء

تحكي آيات لـ"العربي الجديد": "بمجرد أن عرفت شقيقتي أن الاستهداف طاول منطقة منزلها، توقعت أن يكون بيتها قد دمر لأنه يقع قبالة محطة فارس. وجدت الطواقم زوجها مصاباً، وكان طفلها آدم في الشارع يحتضن شقيقته الصغيرة ريفال التي استشهدت. كانت خلال الفترة الأخيرة تشاور زوجها حول النزوح، ولأن معهم عشرة أطفال، وعاشوا المعاناة في تجارب نزوح سابقة، مع كونهم طبيبين، قررا عدم النزوح، وتوقعا ألا يتم استهداف المنطقة، خاصة مع الحديث عن توزيع مساعدات في منطقة (ميراج) القريبة".
تضيف: "كانت أختي تذهب إلى الدوام بمشفى ناصر مشياً، أو يوصلها زوجها، وهي طبيبة أطفال، واختارت هذا التخصص لشدة حبها للأطفال، ما انعكس على حياتها الإنجابية، إذ أنجبت عشرة أطفال خلال 12 سنة فقط. وعلى مدار عشر سنوات من العمل طبيبة، افتتحت مع زوجها طبيب الباطنة حمدي النجار عيادة طبية لتقديم الخدمة في منطقة قيزان النجار، أطلقوا عليه اسم مجمع اليحيى الطبي، وهو اسم طفلهما الأكبر، كما حملت الأقسام الداخلية فيه أسماء أطفالهما، فالصيدلية تحمل اسم إيف ومختبر التحاليل يحمل جبران، ويضم المجمع أقسام متابعة حمل وقسم أسنان، وكان النقطة الطبية الوحيدة بالمنطقة، ويتوافد عليه الأهالي، وكان يقدم رعاية صحية لعدد كبير من المرضى".

كان عم الأطفال علي النجار أول الواصلين إلى المكان بعد القصف، ويروي لـ"العربي الجديد": "قبلها كنا نطلق المناشدات، ونتواصل مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر لإخراج عائلتين عالقتين بالمنطقة، وكنت على تواصل مع العائلتين، وبمجرد سماع صوت الانفجار الكبير، وصلت إلى المكان بسرعة قبل وصول طواقم الإسعاف، ونقلت شقيقي حمدي وابنه آدم إلى المشفى، ثم عدت إلى المكان مجدداً".
يضيف: "لحظة سقوط الصاروخ الأول الذي لم ينفجر، نزل أخي إلى المجمع الطبي، ثم غيّر مكانه، وذهب إلى الصيدلية معتقداً أنها أكثر أمناً، وحين كان يحاول الخروج، سقط الصاروخ الثاني الذي دمر طبقات المنزل الأربع، ومن شدة الانفجار تطايرت أجساد الأطفال الذين كانوا داخل الصيدلية، ووجدناهم في محل الإطارات الملاصق، والذي احترق بفعل الانفجار، واحترقت داخله جثامينهم".
يسترجع قسوة المشهد، ويقول: "كان صادماً. كنا نبحث عنهم بين ركام الصيدلية، ثم وجدناهم في المحل الملاصق. أربع طبقات تساقطت فوق بعضها، وجثامين أطفال صغار مثل الورود متفحمة. أطلق أخي اسم والدي ونجله الأكبر على المجمع الطبي، ثم أطلق أسماء أطفاله على الأقسام لتعزيز طاقتهم الإيجابية، وفي محاولة لربطهم بمهنة أبيهم وأمهم المقدسة. كان أخي يحمل الجنسية المصرية، وكان يستطيع مغادرة قطاع غزة، لكن كان لديه إصرار على البقاء لتقديم الخدمة الطبية، حتى إنه رفض فكرة النزوح عن المنطقة، وكان يدرّس أطفاله العلوم الشرعية، ويقوم هو وزجته بتحفيظهم القرآن الكريم منذ الصغر".

قبل أسبوع زار علي النجار منزل شقيقه حمدي، وهو لا ينسى استقبال الأطفال له. يقول: "تعلقت بهم جميعاً، وكبروا أمام عيني، كانوا زهور وزهرات عائلتنا. نحن عائلة مترابطة، وأبناء أخي هم بمثابة أبنائي، وهم الآن شهداء".
تكمل آيات النجار التي يخرج صوتها من قلب مثقل بالوجع: "كانت شقيقتي آلاء تحب أن ترى أطفالها متعلمين، واثنان منهم حفظا القرآن الكريم في سن صغيرة، وهما آدم والشهيد يحيى، وآدم كان يعرف كافة تفاصيل الصيدلية، ويحفظ أسماء الأدوية، وتشعر كأنه رجل صغير، وكانت دائماً تعتبره سندها. كانت تحاول تنمية اللغة الإنكليزية لديهم، وكانوا في غاية الجمال بشعرهم الأشقر وعيونهم الزرقاء، كما كانوا أذكياء، وكانوا يطمحون إلى أن يكونوا أطباء كوالديهم، ودائماً يتواجدون بالمجمع الطبي والصيدلية كي يساعدوهما".
كان أحلام أطفال عائلة النجار تكبر داخل المجمع الطبي، حيث تفتحت عقولهم على الأجهزة الطبية والأدوية، وشجعهم حمل أقسام المجمع أسماءهم على زيادة شغفهم بالطب. تقول آيات: "بعد الانتهاء من دوامها بالمشفى، كانت شقيقتي آلاء تمارس عملها في المجمع مع زوجها، وكانت حياتهم تدور حول خدمة الناس، وكبر أطفالهم على ذلك. قتل القصف الإسرائيلي أحلام الأطفال بأن يصبحوا أطباءً ويخدموا بلدهم. شقيقتي آلاء إنسانة مكافحة، وكل طفل كانت تستقبله كانت تعتبره أول طفل، وخلال الحرب رزقت بالتوأم سيدرا وسيدار، وبعد شهرين على الولادة توفي سيدار بسبب التهاب معوي، ولم تستطع العائلة تخطي الفقد إلا بعد فترة".
عُرفت الطبيبة النجار بتفانيها في عملها. تقول آيات: "قبل فترة أصيب طفلي بشظية في معدته، وجاءتني تبكي، فرغم أنها طبيبة أطفال، إلا أنها لم تكن تتحمل رؤية طفل مصاب، وقالت لي إنها لا تتخيل رؤية أحد من أولادها في هذا الموقف. للأسف، تعرضت إلى الأسوأ منه، إذ فقدت أطفالها التسعة. دائماً كنا نسمع عن فقد الأبناء، لكن عندما عشنا ذلك أدركنا قسوة الفاجعة".

وعن الحالة الصحية لآدم، تتمالك نفسها وتوضح: "هو بحالة جيدة الآن بعد إجراء عملية جراحية في يده، مع وجود خدوش ببقية أنحاء جسده ووجه، وقد تحدث مع أمه، لكنه لا يعرف ما حصل لإخوته، ويعتقد أنه أصيب مع والده، وأن أشقاءه نجوا، وهو حزين أنهم لم يأتوا لزيارته. في الصباح سمعته يهذي باسم شقيقته إيف بينما كان نائماً. أما والده، فقد أصيب بكسر في الجمجمة وكسر في الكتف، وجرى استئصال جزء من رئته. تنشغل آلاء عن فاجعة الفقد بمتابعة حالة آدم والمكوث إلى جانب زوجها بغرفة العناية المكثفة كونها طبيبة، وعندما تشعر بوجود أي تغير في الحالة تستدعي الأطباء".
وتؤكد آيات أن "الاحتلال تعمّد استهداف الأطفال ووالدهم، فقد كان يتابع تحركاته وهو يخرج لتوصيل زوجته إلى المشفى، ويعرفون أن في المنزل أطفالاً. لم يرسلوا أي إنذار، وقرروا قتل أطفال أبرياء لم يجدوا مكاناً يؤويهم فبقوا في منزلهم. أمام الصمت العالمي المستمر عن جرائم الإبادة الجماعية في غزة، يرتكب الاحتلال جريمة بشعة جديدة حصدت أطفال أختي الطبيبة آلاء النجار".

Read Entire Article